د. سلمان الكاصد
نعود ثانيةً لنقدم أهم الأفلام العالمية في إطار التمييز العرقي الذي شهدته أميركا في الستينات إبان حكم كندي .
الفيلم هو ( الكتاب الأخضر ) Green Book وهذه التسميه لاعلاقة لها بالكتاب الاخضر للقذافي كما قد يتبادر لذهن المتلقي ..
هو فيلم درامي ذو مسحة كوميدية خفيفة يعد من افلام الطريق، اخرجه للسينما ( بيتر فاريلي ) من انتاج ٢٠١٨ ( كندا ) حاز على جوائز الاوسكار لأفضل فيلم – وجائزة الاوسكار لأفضل ممثل مساعد وجائزة الاوسكار لأفضل سيناريو أصلي.
ورشح لجائزة الاوسكار لأفضل ممثل، وجائزة اختيار النقاد للأفلام لأفضل ممثل، وجائزة الاوسكار لأفضل مونتاج، مدة الفيلم ١٣٠دقيقة كتب سيناريو (الكتاب الاخضر) نيك فاليلونغا، وبيتر فاريلي ، وبراين لوري.
هي رحلة توني ليب (فيجو مورتينسون) السائق الاميركي من الاصول الايطالية مرافقاً عازف البيانو الاسود الشهير (دون شيرلي) للجنوب الاميركي الذي تتجسد به العنصرية العرقية بأعلى تجلياتها.
قام الممثل ذو الاصول المصرية (ماهر شالاعلي) بدور (دون شيرلي) الموسيقار العالمي الذي يعيش تناقضاً سلوكياً ومعرفياً مع السائق العرقي الكاره للسود (توني ليب).
التناقض البنيوي
من الطبيعي أن الرحلة التي سيقدم فيها (دون شيرلي) عدة حفلات عزف موسيقى كلاسيكية ستمر في اكبر الولايات الاميركية الجنوبية حيث الحضور الطبقي العالي ، اركان الدولة والمجتمع الراقي، في مواجهة فن كلاسيكي يقدمه (دكتوراه في علم النفس والثقافة والفن وموسيقار عبقري هو (دون شيرلي) الذي كان اسود البشرة وهذا مايجعله في تناقض رهيب بين (كما يقول هو) أن يكون عبقرياً محترماً على المسرح ، وشخصاً نكرة أسود عندما ينزل هذا المسرح الفاتن حال الانتهاء من العزف وهو بذلك يلخص ذاته العبقرية في حوار مع سائقه (توني) ((انني لاأعرف لمن انتمي للسود الذين يرونني عازفاً عبقرياً للبيض ام للبيض الذين يرونني أسود اللون حال نزولي من المسرح ، ام انا الذي لاأستطيع أن اتحرر من القيود.
ويكتشف السائق أن العازف الاسود مثلي. ولكن يتغاضى عن ذلك في اطار من التجاوز.
تبدأ الرحلة من نيويورك وتمر بعدة ولايات جنوبية عرف عن مجتمعها أنهم اكثر الاميركان عنصرية، إلا انهم يستقبلون هذا العازف الاسود الماهر .
الابداع والفطرة
بين العقل الابداعي والاخر الفطري يتحرك الفيلم وبمواجهة بعضهما البعض ، يقدم العازف الاسود شخصية متزنة تعيش أقصى درجات البروتوكول ويقدم السائق أدنى درجات التعامل اللغوي الفج ومابينهما يتوزع المشاهد اعجاباً . وكلاهما يحاول التفوق على الاخر كممثلين في اطار فضائهما الاجتماعي.
((السلوك / اللغة / الابداع)) ثلاثي يشتغل عليها المخرج الذي تناول تلك الموضوعات ببساطة ، إلا ان هذا التبسيط بدا رائعاً حقاً .
وهذا يؤكد ان الوصول للعادي والمألوف ليس بالامر السهل لانه يؤدي الى البراعة والاتقان.
قسم المخرج فيلمه الى مراحل كورنولوجيه (تتابعية) كي يتخلص من تعقيد الحكاية، اذ كل قسم له حكاية لاتنفصل بنيوياً عن الحكاية السابقة أو اللاحقة لها ، وبذلك تتماسك اجزاء الفيلم التي تطابقت جزيئاتها على مستوى تركيبها كفيلم ، مع جزيئات الواقع الذي تتناوله وهو ( رحلة في مدن أميركية جنوبية وماجرى فيها من أحداث) .
وقبل ان ندخل في تقنيه الفيلم والسيناريو والدراما التي حملت كوميديا مبهرة فيه لابد أن نشير الى أن عنوان الفيلم (الكتاب الاخضر) مستقى من كتاب صدر عام ١٩٦٢ بالعنوان نفسه، كان يوزع على السود الذين ينوون الذهاب الى الجنوب الاميركي، حيث يذكر الكتاب طرق وعناوين الفنادق والمطاعم والمقاهي المخصصة للسود في تلك الولايات كي يتجنب الاميركي الأسود تعب البحث عن اماكن ينام او يتناول وجباته فيها لانها مخصصة للرجل الابيض.
طرافة اللغة
لنلاحظ وبشكل عفوي أن (سيارة الرحلة خضراء والدليل (الكتاب الاخضر) وان المراعي الخضراء وعالم الطبيعة ) شكلت كلها بنيةً واحدةً انعكست على لغة الرسائل التي كان يبعثها السائق الاميركي من أصول ايطالية لزوجته من كل ولاية يحل بها ..
براعة السيناريو بدت هنا، اذ كانت الرسائل التي يبعثها توني السائق لزوجته جافة لاعاطفة فيها ، ولكن فجأة أصابها تحول جمالي حال تدخل الموسيقار الاسود الذي اضفى عليها شيئاً من الشاعرية في مخاطبة الزوجة وبذلك بدت تحمل الحب العميق والتوصيفات الراقية والاستعارات الخلابة ، هذا التحول أثار شغف الزوجة التي بدأت تقرأ رسائل زوجها (توني) الى زوجات الاصدقاء بل لأصدقاء (توني) الذين اعجبوا بتناسق المعنى واللفظ وجمالية الخطاب التي لم يعهدوها في صاحبهم السائق من قبل، حتى انهم اطلقوا عليه (شكسبير) وهم لايعرفون ان الذي كان يكتبها هو الموسيقار الاسود . وفي نهاية الفيلم حيث رأس السنة يرجعان (الموسيقار والسائق) الى بيتيهما، ولكن الموسيقار الاسود العازب لايريد أن يقضي تلك الليلة وحيدا اذ لا عائلة له إلا مع صديقه الحميم بعد عداوة عرقية محضة، فذهب الى بيت (توني) ضيفا عليه وحالما أخذته زوجة (توني) بحضنها ، همست له في آخر كلمتين في السيناريو (شكراً لك على رسائل الحب الجميلة التي كنت تصوغها) .
لم يبدأ الصراع بين الشخصيتين خلال تعارفهما بل هو اسبق من ذلك بكثير. انه موروث سيسيولوجي قديم معبأ به شخوص الفيلم وبخاصة (توني السائق) الذي كان يمقت السود ويعتبرهم (نجاسة) لابد أن ترمى مخلفاتهم في حاوية النفايات وهذا ماحصل فعلاً هكذا قدم المخرج هذه الشخصية منذ البدء.
التقاء النقيض
ولان توني عاطل عن العمل ارتضى على مضض أن يعمل سائقاً عند الموسيقي الاسود العملاق مقابل اجر مغر.
تبدأ الرحلة بين شخصيتين مختلفتين، هذا الاختلاف والتناقض هو الذي قاد الفيلم نحو براعة البحث عن الالتقاء عند الزوايا التي يشترك فيها هذان الشخصيتان ، وكأن المخرج اراد أن يجيب عن سؤال المشاهد :
كيف ومتى تلتقي هاتان الشخصيتان المتنافرتان سلوكاً وعرقاً وموقفاً؟
عند أي من الزوايا التي سيجتمعا ؟
ويبدو أن المخرج قد نجح في ايجاد تلك الزوايا، وهي الفعل الانساني الخلاق، الذي برهن على تجاوزه لكل مارسمته البنى الاجتماعيه في ترسيخها مفاهيم لا انسانية عبر ازمنة طويلة اسهمت فيها السلطات والمصالح الطبقية من خلال سيطرة الطبقات الاقطاعية على الاراضي الشاسعة وتوظيف العمالة السوداء التي كانت تباع وتشترى مع الأرض .
لقد بدأ التجاوز اذاً ليؤكد هذا الفبلم ان الفوارق تلك يمكن ان يتم تخطيها عبر (الفن) ولهذا شاهدنا فناناً اسود البشرة يؤثر في رجل متعصب لعرقيته كذلك اسهم (الفن) ايضاً في جعل الابيض العرقي يرى أن الفن ليس حكراً على الابيض ، بل هو العامل الذي نتجاوز من خلاله الحدود المرسومة بين البشر.
استطاع ماهر شالاعلي (دون شيرلي) ان يكسر نمطية الاسود الراقص ذي البناء الخفيف ، كما قدمته السينما الاميركية ، الى الاسود المتوازن الاكثر رقياً، والذي لايرضى لنفسه ان ينزل الى الموسيقى الشعبية في عزفه البارع حيث ظل في مستوى الكلاسيكيات العالمية، وهذا ما جعل ابناء المجتمع الابيض الراقي لاستضافته .
لقد بنى المخرج شخصيه قوية فعلاً تدعو للاعجاب والانبهار.
بنية الشخصية
اما السائق فقد استطاع أن يقدم بنية الشخصية الاميركية الأمية ، ابنة الحانات والمقاهي والشوارع الخلفية ، في طريقة تناوله الطعام وسياقته وتعامله اللغوي مع الآخر ، انه مجموعة من المتناقضات التي استطاع الموسيقار الاسود ضبط ايقاعها خلال شهرين من العلاقه.
نعم لقد مثل فيجو مورتينسون هذه الشخصية ببراعة مما جعلنا لانستطيع ان نغلب أحدهما على الآخر، وهذا هو التكافؤ المعياري في بناء الشخصية ، وبذلك لم يركز الفيلم على شخصية دون اخرى .
ويبدو أن المخرج لم يتخلص من ان الابيض / السلطة هي التي تمنح الشرعية، ومثال ذلك انه حالما سجن الموسيقار مع سائقه بقسوة فجة، طلب الموسيقار ان يتصل هاتفياً وبعد اتصاله تلقى ضابط المركز مكالمة من (توني كندي) اخ (جون كندي) يأمره باخراجهما من السجن ، لان (شيرلي) الموسيقار يعد من اهم من قدم عزفاً في البيت الابيض الاميركي.
فيلم يستحق المشاهدة لهدوئه في طرح مشكلة معقدة ربما وصل الى ايجاد حلولها وذلك في التقارب الانساني بين طرفين متصارعين عرقياً.
يبقى ان نقول ان الفيلم لم يقدم تقنيات تصويرية عالية ولم يتلاعب بالزمن السردي وظل في تدرج عرضه لحكايته كلاسيكياً، الا انه عوض عن هذا النقص بما قدم من رؤية ازاء قضية مؤرقة.
ويبقى الجانب الاهم ان مبررات اختيار هاتين الشخصيتين الاثنتين أحدهما للآخر يمكن تقبلها بقناعة منها ان اختيار الموسيقار الاسود لسائق ابيض يشير الى الحماية والابهار، وان مادعا السائق الابيض بقبول خدمة الاسود هو (سلطة المال) الذي ظلت بوصفها لغة مهيمنة لحد ما على بنية المجتمع الاميركي بدلالة (ترامب) وهوسه بالاستحواذ على مال العالم كله لأجل اميركا.