فوزي عبد الرحيم السعداوي
-4-
بعد ثورة ١٤ تموز١٩٥٨ وخصوصا في الأسابيع الأولى كان الاقبال على شراء الصحف والمجلات وخاصة المصرية مثل المصور وآخر ساعة جنونيا وأتذكر ان هيكل مكتبتنا الخشبي في أحد الأيام انهار من شدة الزحام، وكان هناك اقبال شديد على المطبوعات فصدرت صحف جديدة عدة تمثل اتجاهات سياسية مختلفة حيث صدرت صحيفة صوت الأحرار اليسارية وصحيفة اتحاد الشعب الناطقة بلسان الحزب الشيوعي وصحف أخرى أقل أهمية مثل الحضارة والانسانية و١٤ تموز والبلد.. وغيرها.
استجابة للظروف السياسية الجديدة وتحقيقا لحلم والدي، قرر انشاء دار للنشر وهو ماحصل حيث ظهرت للوجود دار الأهالي للتوزيع والنشر التي تبنت أساسا توزيع الجريدة الناطقة بلسان الحزب الوطني الديمقراطي “الاهالي” لكن نشاط الدار سرعان ما توسع بفضل علاقات والدي السياسية اضافة إلى تأييد أوساط بعضها حكومية لتوجهات الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يخوض تنافسا مع الحزب الشيوعي، فحصلت دار الأهالي على احتكار لتوزيع وقائع محكمة الشعب التي أصدرتها وزارة الدفاع وتتضمن المحاكمات التي أجرتها المحكمة العسكرية الخاصة (محكمة المهداوي) اضافة لتوزيع بعض المنشورات السوفياتية والصينية.
كانت دار الأهالي تقع مقابل سوق الصفافير لذلك هي ضمن شارع الرشيد الذي هو موضوع المنشور أو على الأقل ضمن اشياء الشارع، ولقد كان الوضع السياسي والاجتماعي في العراق وخاصة في بغداد وبالأخص في شارع الرشيد استثنائيا جدا لم يسبق له مثيل ولم يتكرر أبدا وقد عشته حتى الثمالة برغم صغر سني.
-5-
كما ورد سابقا فقد جاءت ثورة تموز ٥٨ بأجواء أطلقت العنان ليس فقط للاحزاب والتوجهات السياسية ولكن استثارت واستحضرت الكثير من الأفكار والممارسات التي اصطدم بعضها بشدة مع قيم المجتمع ومعتقداته اذ وبرغم ماهو معروف عن سيطرة الشيوعيين على الشارع الا ان ذلك لم يكن دقيقا فحدثت ممارسات كثيرة لم يقبلها المجتمع تحملها الحزب الشيوعي الذي لم يكن قادرا تنظيميا على السيطرة على الحشود الهائلة التي ملأت الشوارع تعبيرا عن رغبات وأفكار كانت كامنة.
في العام ٥٦ تأسس تلفزيون بغداد كأول محطة تلفزيونية في الشرق الأوسط، وقد كان أبي المولع بتوفير كل مايمكن لعائلته والمواكب لكل تطور من أوائل من أقدموا على شراء جهاز تلفزيون كان ثمنه مكلفا جدا بمقاييس ذلك الزمان، وكان الجهاز الذي اشتراه الوالد ماركة انكليزية تسمى “شوب لورنس” وكان سعره ١٠٠ دينار.
لقد استمتعنا جدا بهذا الامتياز الكبير سيما وان برامج التلفزيون كانت راقية وممتعة ومفيدة فعدا عن افلام الرسوم المتحركة التي تستهوي الأطفال كان هناك برنامج خاص للاطفال يقدمه عمو زكي وفي المساء كان هناك مسلسل فرنسي يعرض اسمه الوردة الحمراء وكذلك مسلسل باسم الكونت دي مونت كريستو اضافة لبرامج أخرى متنوعة ظهرت تباعا مع تطور التلفزيون تقنيا واداريا بعيدا عن أي اسفاف حيث ساهم التلفزيون وبرامجه بارتقاء ذوق الجمهور اذ يكفي ان تعلم ان التلفزيون كان يقدم برنامجا عن رقص الباليه كل يوم أحد اسمه رقصات مدام لينا كما كانت هناك فقرة للعزف الغربي تقوم به موسيقارة أرمنية شهيرة توفيت في الولايات المتحدة قبل سنين قليلة.
بعد أسابيع من ثورة تموز 1958 بدأت محكمة الشعب بمحاكمة رجالات العهد الملكي حيث يتم البث مباشرة ولما كنا البيت الوحيد الذي يمتلك جهاز تلفزيون فقد أصبح دارنا مقصدا للجيران الذين لم يعودوا حتى بحاجة لطرق الباب المشرع بدون قيود لاستقبال الراغبين بمشاهدة وقائع المحاكمة.
-6-
وقد كان شارع الرشيد في عز ازدهاره شديد الشبه بشارع لندني حيث الكثير من المباني طرازها فكتوري، وهو كذلك حتى في بضائعه المعروضه من حيث تنوعها ومناشئها اضافة إلى العديد من اجراءات الدولة في التعاطي مع صيانة وادامة الشارع فاضاءته كانت تتم عبر مصابيح ضخمة انكليزية المنشأ كما كان يجري غسل الشارع مساء كل يوم أما عملية التنظيف ورفع النفايات فقد كانت تجري بهدوء ورشاقة وعبر أكثر من طريقة حيث كان هناك عمال في الميدان يقومون بالتنظيف الفوري على مدار اليوم اضافة إلى سيارات رفع النفايات المتخصصة التي تأتي مساءا لرفع ماتراكم في الأماكن المخصصة.
وحيث اني مازلت أتحدث عن منطقة محددة من شارع الرشيد هي منطقة المصارف أقول ان الشارع كان يتمتع بحيوية تجارية واجتماعية وسياسية وكان وجود الأجانب أمرا طبيعيا وظاهرا جدا ومازلت أتذكر مشهدا علق بذاكرة الطفولة لاني لم أشاهد مثله فقط في السينما حيث شخص أجنبي يقود سيارة فوكس واكن يقوم كل صباح بايصال زوجته مقابل المحل لتذهب مشيا باتجاه عملها في شارع السمؤل الذي سمي لاحقا وللأسف باسم أسامة بن زيد بعد ان اكتشف المعنيون سرا خطيرا هو ان السمؤل يهودي وهو الشاعر العربي المبدع يهودي الديانة !!!!، قبل ان تنزل الشابة الأجنبية يقوم زوجها بتقبيلها بكل أريحية وبدون تحفظ ودون أي رد فعل من أحد، لا أثق حدوث ذاك في ايامنا الحالية كان ذلك في العام ١٩٥٦.
-7-
كما ذكرت سابقا فان أي نشاط سياسي لابد ان يمر بشارع الرشيد فقد كان الشارع مسرحا لكل التظاهرات السياسية في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات وحتى جزء من السبعينيات وبعد ذلك التاريخ كان لحزب البعث طريقته في الاحتفال بمناسباته وبالطبع لم تعد هناك تظاهرات او نشاطات سياسية معارضة، حيث بدأ شارع الرشيد قد بدا بفقد أهميته لأسباب سنذكرها لاحقا.
في طفولتي وصباي كنت مسحورا بالشارع لاني كنت أرى فيه أشياء كثيرة أجهلها وأخرى أعرفها من التلفزيون حتى ظننت في وعيي ذلك ان شارع الرشيد مكان يطل على العالم، لم أكن في عمري الصغير ذالك أتحرك بأكثر من حدود ساحة الأمين (الرصافي لاحقا) ومنطقة المصارف حيث مكتبتنا مرورا بمنطقة الصفافير وباب الأغا حيث بيتنا وهو حكاية أخرى سنتعرض لها باعتبار انها من أشياء شارع الرشيد.
لم أدرك النشاطات والتظاهرات التي مرت بشارع الرشيد في العهد الملكي، لكني تفاعلت بشكل كامل مع التظاهرات والاحتفالات التي جرت بعد ١٤ تموز ٥٨ حتى شباط ٦٣.
كان شارع الرشيد هو عالمي لكنه كان يثير فضولي ولاأعرف مابعده، فكنت أنظر إلى الأعمدة على جهتيه وهي تبتعد إلى ان تلتقي وتغلق الرؤيا متسائلا عن العالم مابعد تلك الأعمدة.
بعد ان بلغت من العمر مرحلة أصبح مسموحا لي الذهاب إلى “باب الشرجي” في عيدي الفطر والأضحى اكتشفت تتمة العالم المسحور الذي يبتدا بساحة الوثبة في حافظ القاضي(ساحة الملك فيصل الثاني) حيث هي أقرب نقطة للبيت من مقتربات العيد التي ما ان أصلها حتى أحس ان العيد قد بدأ، كانت ساحة الوثبة تحفة خضراء حيث الورود والخضرة المنسقة بأيدى ماهرة.
المسافة من ساحة الوثبة حتى الباب الشرقي هي واحدة من أجمل أجزاء شارع الرشيد ظللت أعشقها إلى ان تغير الشارع وخاصة منطقة السنك حيث كنت نهارا أداوم في مدرستي هناك لكن الشوق يستبد بي فأعود عصرا من بيتنا في المنصور لأتمشى في المنطقة الممتدة من حافظ القاضي إلى نهاية شارع الرشيد، وهذا كان من الطقوس الملازمة لهذه الجولة التوقف عند محلات الأرمن لبيع الكيك واللبن.