خالد ربيع السيد
لعل المشاهد لفيلم «نيركوك»، السوداني القصير (20 دقيقة) إنتاج عام 2016م للمخرج الشاب «محمد كردفاني»، لا يتوقف فقط عند قصة الطفل «آدم» الذي فقد أباه إثر غارة جوية أثناء حرب الجنوب السوداني، بل أنه سيستعيد قصص مآسي الأطفال اللذين تشكل مصيرهم على أيدي المستغلين المارقين على القانون وعن كل عرف إنساني وبالتالي سيقف مجددا على مأساة بلد نهبها اللصوص في وضح النهار…. وهكذا بعد الغارة الجوية يصبح «آدم» مضطرًا للهروب من بلدته ويذهب الى الخرطوم ليستطيع البقاء حياً، ويتحول هناك إلى أشهر وأمهر لص منازل متفوقاً على الكثير من اللصوص أمثاله.
بداية لا بد أن نعرف أن كلمة «نيركوك» تعني “طفل” أو “ولد” بلغة سكان جبال النوبة بجنوب منطقة كردفان بالسودان. لذا فإن مخرج الفيلم «محمد كردفانى» اختار أن يحكي عن آثار الحرب وما تسببه من دمار في الأفراد والمجتمع، الأخلاق التي انهارت وقيم الانسان التي تبددت، وأصبحت السرقة هي الوسيلة الأسهل للعيش، لهذا نرى تأثير الهوان بعيون ذلك الصبي الذي كان يعيش حياة طبيعية هانئة مع واله وأسرته وفجأة وجد نفسه يحيا حياة لم يختر أيًا من تفاصليها. وهنا تتمثل الادانة التي يوجهها الفيلم للحرب وللسياسة التي عجزت عن إيقافها قبل ان تفرز خبثها.
حرفية تنفيذ الفيلم
الفيلم منفذ بحرفية جديرة بالتقدير، حافظ فيه مخرجه على إيقاع محموم لكنه ينقل حياة الليل التي يعيشها اللصوص، وفي نفس الوقت روى في زمنه القصير ما يمكن أن يرويه فيلم طويل، فالعناصر الفلمية والشخصيات والحبكة والصراع تكاد تبلغ أعلى درجات الاكتمال، ناهيك عن سيناريو الفيلم المحبوك، وتصويره ومونتاجه ورؤيته الاخراجية الاحترافية.
تتصاعد الأحداث
إذن، يلتقي النيركوك آدم بطفلة مشردة مثله (آمنة) فتقنعه بأن السرقة عمل غير شريف، وأنها تكسب من عملها في بيع “التسالي” بشكل مرضي وأنه رزق حلال أفضل من الحرام، غير أن الامور تتعقد حين يُقرر آدم أن يحرر نفسه من سيطرة رئيسه بلطجي الشوارع (مازدا) الذي يستغله ويستغل أطفال آخرين لتنفيذ عمليات سطو على المنازل، وأعمال وضيعة أخرى، فيعتزم آدم أن يبدأ صفحة جديدة وينوي الهرب من هذا الواقع الذي لا يرتضيه، في حين تواجه آمنة (ترمز للفضيلة والشرف والعمل النزيه) العقوبة القاسية من مازدا لأنها حرضت آدم على ترك السرقة والابتعاد عن عالم مازدا.
لم يتمكن آدم من الفكاك من سطوة مازدا، وسرعان ما يتورط في جريمة قتل أثناء مساعدته للبلطجي في سرقة أحد المنازل. ولكن لماذا أطلق آدم النار على صاحب المنزل؟ أو لماذا أطلق النار على مازدا؟ … المشاهد لا يستطيع أن يعرف على من أطلق الرصاص، وفي كلا الحالتين هناك نعاني ودلالات..
ظلال الحرب الاهلية
هكذا يلفت الفيلم إلى ظلال الحرب الأهلية الثانية في السودان والتي بدأت في عام 1983، ولا زالت آثارها مخيمة، تلك التي بدأت بعد 11 عاماً من الحرب الأهلية الأولى بين أعوام 1955م إلى 1972م، دارت بجنوب السودان، وتعتبر إحدى أطول وأعنف الحروب في القرن، وراح ضحيتها ما يقارب 1.9 مليون من المدنيين، إلى أن إنتهى الصراع رسميا مع توقيع اتفاق «نيفاشا» للسلام في يناير 2005 واقتسام السلطة والثروة بين حكومة رئيس السودان ـ المخلوع ـ عمر البشير وبين قائد قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق..
إنه الفساد الذي أدى الى سرقة وطن باكمله واقتسام خيراته ليرزح تحت وطأة بلطجية كبار، ساسة وتجار ولصوص من الشمال ومن الجنوب … هذه هي رمزية الفيلم النابهة التي مررها السيناريو بلغة فنية رفيعة. ومن ثم تحول السارق المحترف والمجبور على السرقة (آدم) الى قاتل لمواطن آمن لا يطمع في شيء سوى في تربية ابنه وفي حياة هادئة… وهكذا حال الشعب المغلوب على امره. الفيلم يفصح ولا يفصح، يعرض قصة بشكلها السطحي، ويترك للمشاهد الذهاب الى الأعماق، والمشاهد الفطن لا تغيب عنه قراءة ما بين السطور.
منطق مازدا
يحتج مازدا على حديث آدم. بأن الذي يسرق سوف يدخله الله النار. فيقول أليس الله هو الذي جعلنا جوعى ولا نجد ما نأكله. حقنا أكلوه التماسيح اللذين يعيشون في البلد. مضت سنوات وأنا أستجدي التماسيح ويقولون لي الله كريم، الله سوف يعطيك. لكن الله لم يعطيني وحقي أخذته بمفردي… هذه هو منطقه الاحادي الساخط على التماسيح اللذين أفقروه.
الركض والهرب الى المجهول
يطلق آدم النار على صاحب المنزل الذي هو ومازدا بصدد سرقته.. نرى آدم وقد خرج من البيت وأخذ يركض ويركض، مبتعداً عن مسرح جريمته وعن كل هذا العالم الموبوء. لقد قتل هذا المواطن البريء لأنه يريد أن يقتل الخنوع والاستسلام وبالتالي يريد أن يفعل شيئاً ينفّس به عن سخطه ويجدد مبرراً لهربه… أخذ يركض في وحشة الليل ويركض في ضلام المدينة الهاجعة الغافلة عن قدرها، ويركض لعله يجد آمنة هناك لتخلصه من واقعه، موسيقى عذبة وموحية يبثها “شاف أحمد” يمزج فيها حساً شفيفاً للبيانو والكونتر باص مع نكهة سودانية لعزف الناي والتي تذكرنا بلغة الموسيقار حافظ عبدالرحمن ، بكل مافيها من أبعاد الهوية وبوح الحياة السودانية الحنونة، ولكنها هنا في الفيلم أراد لها “شاف” أن تقول ما لا تقوله الكلمات وأن تنتحب وتنعي آدم وهو يركض ويركض حتى كادت أن تصدمه سيارة، فيصرخ سائقها: فلاتي مغفل!!… نعم يقصد كاتب السيناريو ومخرج الفيلم أن يجعلنا نفكر في: هل أن آدم حقاً فلاتي مغفل. متشرد غبي؟ وددت لو أن مترجمة الفيلم “إسراء مضوي” لو ترجمت عبارة فلاتي مغفل بـ متشرد أحمق، حيث تكتمل الدلالة. يركض آدم إلى ما لا نهاية… وفي بوستر الفيلم نراه وقد توقف ينظر إلى بزوغ فجر الصباح المحمل بالأمل والحرية.
جوائز نالها الفيلم
نال الفيلم جائزة “شبكة الشاشات العربية البديلة ناس” لأفضل فلم قصير في مهرجان قرطاج السينمائي في تونس، وجائزة الجمهور في مهرجان السجادة الحمراء للأفلام القصيرة بالبحرين. وفاز بطل الفيلم الطفل فخر الدين طارق بجائزة أفضل ممثل. كما فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان وهران للفيلم السينمائي العربي، كما حصد جائزة الفيل الأسود بمهرجان السودان للسينما المستقلة 2017م.
فريق التمثيل
قام الممثل خالد أبو عشارة بدور (مازدا) بلطجي الشوارع أو رئيس عصابة تشغيل الأطفال، وقام الطفل طارق فخر الدين بدور آدم (النيركوك)، والممثل أحمد سيد أحمد بدور صاحب المنزل المواطن الذي تم قتله. الطفلة مروى محمد في دور (آمنة).
الطاقم الفني
مساعد المخرج محمد العمدة. سينماتوغراف خالد عوض ومحمد العمدة. مدير الانتاج محمد الأمين. موسيقى ومؤثرات صوتية شاف أحمد. ترجمة إسراء الضوي. مونتاج محمد كردفاني.
لم يسجل تتر الفيلم اسم فني الاضاءة الذي توفق في بعض المشاهد وأخفق في أخرى، خصوصا المشاهد النهارية الخارجية.
المخرج محمد كردفاني، صانع افلام ومنتج سوداني مقيم بالبحرين يعمل مهندساً للطيران، اخرج اول افلامه القصيرة “دهب ولم يعد” في العام 2015م. وفيلمه هذا يبشر بمخرج واعي يمتلك مفاتيح لغة السينما الرصينة.