الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967
تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.
الحلقة 15
جاسم المطير
في أواخر عام 1966 تم نقل مجموعة من سجناء نقرة السلمان إلى سجن الحلة وكان عددهم 150 سجينا . كان ممثل السجناء في تلك الفترة في سجن الحلة المهندس شاطي عودة (سجين سياسي من الناصرية ) استقبلهم جميعا بود وترحاب من باب السجن الخارجي بينما كان استقبال السجناء الحافل عند باب السجن الداخلي قد شهد عناقا لا مثيل له بين ضحايا الاضطهاد . كان يوما مشهودا بل يوما شهد ساعات طويلة من التأثر العاطفي نزلت فيها دموع المسرة والرفقة من كثير من عيون الرجال لم يكن يتصورها احد .
بعد حوالي شهرين من وصول الوجبة الجديدة قام نصيف الحجاج بلقاء طويل مع النقيب القادم من نقرة السلمان جبار خضير ( شقيق القيادي الشيوعي ستار خضير ) . في ختام اللقاء قال نصيف الحجاج :
ــ أيها الرفيق جبار لقد تم اختيارك من قبل المنظمة الحزبية ممثلا للسجناء أمام إدارة السجن لان ممثلنا الحالي شاطي عودة على وشك أن يغادر السجن لقرب انتهاء مدة محكوميته ..
بسرور بالغ وافق جبار خضير على تسلم المهمة ووضع طاقته النشيطة المتحركة في خدمة السجناء ، خاصة وهو معروف بامتلاكه علاقات ايجابية ومرنة مع السجناء ويحظى باحترامهم وتقديرهم وبحب الجميع . منذ اليوم الأول لهذا التبليغ قام بمرافقة المهندس شاطي عودة وفي الأيام اللاحقة مغتنما الفرصة للتعرف على طبيعة العمل والعلاقات مع الإدارة وعلى الواجبات اليومية المناطة به وعلى شكل العمل وعلى مرتكزاته مع إدارة السجن .
يا للمصادفة الغريبة ..
السجين الذي يمثل السجناء اسمه جبار خضير وهو شيوعي ،
ومدير السجن اسمه جبار خضير وهو من الناصرية يحمل أفكارا قومية ناصرية وهو من الحاقدين على البعثيين وعلى حرسهم القومي .
في الخامس من حزيران 1967 قامت إسرائيل بالعدوان على مصر ، كما توقع القادة السوفييت وبنفس التاريخ وبنفس الساعة التي كان السفير السوفييتي في القاهرة قد ابلغ القادة المصريين وجمال عبد الناصر شخصيا عن معلومات مؤكدة بأن إسرائيل ستقوم بالعدوان في 5 حزيران ، غير أن القيادة العسكرية المصرية لم تتخذ الاحتياطات اللازمة فتهدمت المطارات، العسكرية والمدنية ، في أنحاء مصر بسرعة تحت ضربات الطيران الإسرائيلي العنيفة المتلاحقة . وبدأ السجناء يفكرون في الكثير من التوقعات التي يمكن أن تنتج عن هذا العدوان الجديد . ساد القلق مجددا حول موقف الحكومة العراقية من قضايا السجناء وخاصة قضية إطلاق سراحهم التي اشتد الضغط العالمي عليها خلال الأسبوعين الماضيين وارتفع سؤال كبير من السجناء : كيف يمكن التعامل مع الواقع السياسي الجديد ..؟
تنوعت الأجوبة وتعددت في أعقاب حوارات كثيرة جرت بين السجناء الذين راحوا منشغلين بالاستماع إلى راديو موسكو وراديو صوت العرب وراديو صوت الشعب العراقي ( راديو الحزب الشيوعي ) إضافة إلى الاستماع للنشرات والتقارير الإخبارية في إذاعتي لندن وصوت أميركا في متابعة متواصلة لأخبار المعارك الجارية على الجبهة المصرية ورغم وجود تساؤلات عميقة حول مصير المعارك لدى غالبية السجناء غير ان الكثير من المفاهيم الساذجة حول التناقضات السياسية في مواقف الحكومة العراقية قد ظهرت ايضا ، من جديد ، بين بعض السجناء .
اصطدم السجناء في الحلة بهذا الواقع المأساوي في الضربة العسكرية الإسرائيلية المطلقة والمؤذية التي طالت الجيش المصري والتي قام الضباط العسكريون السجناء بتحليل أبعادها ونتائجها وقد اخذوا بالحسبان أن من أولى النتائج ستنشأ أزمة كبرى في الجبهة العربية في الميدانين السياسي والعسكري كما ستنشأ أزمة فكرية كبرى داخل المجتمعات العربية كلها بما فيها المجتمع العراقي وصولا إلى داخل السجن أيضا .
أدركت المنظمة الحزبية السجنية هذا الواقع المؤلم فأصدرت بيانا إلى السجناء المتجمعين في ساحة السجن ، ظهرا ، وكلف جبار خضير بقراءة البيان الذي دعا إلى ضرورة إنهاض القوى الجماهيرية وتعبئتها للمشاركة في هذه المعركة ، كما طالب البيان بضرورة إطلاق سراح السجناء من السجون العراقية كافة ، وعلى الفور .
انتعشت من جديد تلك الرؤية التي كانت تتداول بين السجناء عن احتمال قيام الحكومة العراقية فورا بإصدار العفو العام عن السجناء السياسيين الذين راحوا يتوقعون أن يتم ذلك خلال الساعات أو الأيام القليلة القادمة ، كذلك سرى الفرح والثقة حتى بين السجناء العاديين في القاطع الوسطي داخل سجن الحلة إذ كانوا يأملون بإطلاق سراحهم أيضا . كانت لجنة تخطيط عملية الهرب تخشى ظهور مواقف مثبطة لعزيمة حفر النفق وانجاز عملية الهرب مما عزز ضرورة عدم الاستجابة لأحاسيس انتشرت في السجن بالتفاؤل حول احتمالية العفو العام عن السجناء رغم وجود أحساس التشاؤم لدى سجناء كثيرين بأن لا أمل بهذا السياق يمكن توقعه من نظام رجعي معاد للشيوعية .
من جديد اجتمع السجناء العسكريون الشيوعيون وقرروا ، بعد الظهر ، إرسال برقية تضامن مع سوريا ومصر والأردن واستنكار العدوان الإسرائيلي وقد حملت البرقية استعداد الضباط السجناء بالالتحاق فورا بجبهة القتال للمساهمة في المعركة وقد أبدى السجناء الضباط استعدادا آخر من نوع خاص وهو عودة الأحياء منهم من الجبهة إلى زنزانات السجن في حالة عدم صدور العفو العام عن السجناء السياسيين أو عدم استشهادهم في الجبهة . اطلعت المنظمة على مسودة البرقية المعنونة إلى وزير الدفاع ووافقت على إرسالها ، كما وافقت على توقيعها من قبل خمسة من الضباط نيابة عن العسكريين السجناء هم كل من النقيب جبار خضير الحيدر ( ضابط مخابرة ) والنقيب خالد ( طيار ) والرائد كنعان العزاوي ( مشاة ) والملازم الأول أديب جورج ( هندسة ) والملازم الثاني حسين علي جعفر ( طيار ) وقام السجين الشيوعي جبار خضير بتقديم البرقية إلى المدير القومي جبار خضير الذي قام بإبراقها فورا إلى بغداد .
من جهة أخرى حدث جدل واستفسار واسعين بين أعضاء فريقي التنفيذ والتخطيط عن استمرار العمل بحفر النفق أو إيقافه بسبب الظروف السياسية الناشئة عن العدوان والتي أدت إلى اشتداد المطالبة الجماهيرية في اغلب المدن العراقية بضرورة إطلاق سراح السجناء السياسيين فورا . انقسم السجناء الذين كان عددهم في الحلة آنذاك حوالي 550 سجينا ، انقسموا بوضوح إلى ( غالبية ) تعتقد أن الحرب ستكون وسيلة ضاغطة من وسائل إطلاق السراح و( أقلية ) لا تعتمد على الوضع الجديد إلا بنطاق ضيق جدا في كون الظروف المستجدة ستضغط على الحكومة لإصدار قانون العفو العام الذي كانت الحكومة وما زالت مترددة إلى حد كبير . كان رأي الأقلية هو استحالة قيام تضامن بين الشعب والحكومة . هذه الاستحالة بنيت على عدم إحساس القوى القومية المسيطرة على الحكومة العراقية بأية مسئولية وطنية بسبب ما نعرفه عن قصور رؤيتها الاستراتيجية . لقد فقدنا نحن السجناء بعد انقلاب 1963 أي إيمان أو ثقة بتصريحات وسياسة القوى القومية ، البعثية و الناصرية ، خلال السنوات الأربع التي مرت بنا . التعبير الابلغ عن غياب الثقة بالحس التضامني لدى حكام بغداد مع السجناء السياسيين نابع بالأساس من الآلام التي تحملها أجسادنا من العذاب الذي افقدنا الثقة فقدانا تاما بأي عمل من أعمال الخير كإطلاق سراحنا حتى في ظل ظروف المواجهة العسكرية الحالية مع إسرائيل .
لذلك تقرر بالإجماع أن يستمر العمل بالحفر من دون توقف ، حصل القرار على موافقة نصيف الحجاج على الفور .
استمر الحفارون في تلك الليلة بعمل أوسع تبنى بحماس أطروحة ” تعجيل ” العمل للحصول على نتائجه دون تأخير والتأكيد على أهمية الاستفادة من كل ساعة لانجاز هذه المهمة التاريخية كما استمر عمل جبار خضير في اليوم التالي بالإشراف على إخراج التراب من النفق ودمجه مع الازبال الخارجة من السجن بواسطة عمال التنظيف وسيارات النفايات . كأن أعضاء الفريقين يعملون معا في مصنع واحد . التفاعل الايجابي ساد بين الجميع . تفاعل الفكرة مع الفكرة خارج النفق وتفاعل ضربة الفأس في باطن الأرض داخل النفق . سار كل شيء بتوافق تام في عملية حفر النفق كما انسابت أقلام فريق التنفيذ في تلك الليلة لاستنساخ اكبر حجم من الجريدة السجنية صادرة بــ 16 صفحة بدلا من ثمان ، كما هو الحال في كل يوم ، لتأمين اطلاع السجناء على أوسع الأخبار المتعلقة بالحرب القائمة في سيناء .