لا يتناطح كبشان على ما يتسم به أهل العراق من خصال وطبائع تتمحور حول خصيصة الجدل، وهذا ما تطرق اليه العالم الجليل الدكتور علي الوردي في كتاباته حول “نزعتهم الجدلية”. وقبل ذلك باكثر من الف عام كتب الجاحظ: “العلة في عصيان أهل العراق على الامراء، وطاعة أهل الشام، ان اهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال، والتمييز بين الرؤساء واظهار عيوب الامراء..”.
اليوم نجد انفسنا نقف أمام معضلة من نسيج ذلك الارث التاريخي، وهي مهمة ايجاد مرشح “مو جدلي من موطن الجدل” لموقع رئاسة مجلس الوزراء، وهي تعيدنا الى ما جرى قبل مئة عام، عندما تم الاستعانة بشخصية من خارج العراق ليكون ملكاً عليهم. عندما نتمعن جيدا بحفرية الجاحظ عن اهل العراق وطباعهم وما يشغل اذهانهم ويرسم سلوكهم ومواقفهم تجاه شتى القضايا، وما اكدته كتابات علي الوردي وغير القليل من الباحثين الجادين في هذا المجال؛ نجد ان ذلك الارث يحمل في داخله الضدين، ووفقا لنوع الشروط التي تتوفر يتحول احد الضدين الى واقع ويتوارى الضد الآخر.
ما خلا جزء محدود جداً من مشوار المئة العام على ولادة العراق الحديث (1921-2020) فقد بسطت الامكانية السلبية (الاستبداد والخنوع وما يتجحفل معها من منظومة التلقين) سطوتها وتحولت الى واقع انحدر بـ “وطن الجدل التاريخي” الى حضيض البؤس والتشرذم، لذلك نضح العراق أسوأ وأقبح ما لديه خلال هذه الحقبة وشروطها المتنافرة و”نزعتهم الجدلية”. في الوقت الذي ارتقت هذه الخصيصة (الجدل) بقسم كبير من البلدان والمجتمعات الى الذرى، في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية، نجدها في موطنها الاصلي قد تحولت الى نقمة ومصدر للعجز والهزائم الدائمة، والسبب في ذلك يعود الى المناخات والشروط الضد التي رسمت مثل هذه المصائر للعراقيين، أي نظم الاستبداد والتبعية والتقليد والتلقين في شتى الحقول السياسية والدينية والفكرية والتعليمية والقيمية.
وعلى العكس من ذلك تماما في المحطات القصيرة جداً من اجواء الحرية والانفتاح، كشف العقل العراقي عن مواهب واستعدادات هائلة للابتكار والابداع، مثل هذه الفرصة تم اهدارها، بيد قوى الشراهة والتخلف وضيق الافق التي بسطت هيمنتها على تفاصيل حياة حقبة الفتح الديمقراطي المبين…!
ان موضوع العثور على “مرشح غير جدلي” لادارة مرحلة التمهيد لانتخابات مبكرة، وفي ظل المعطيات التي اشرنا اليها، يعد مطلباً عسيرا وملتبسا وأقرب الى اليوتوبيا منه الى الواقع. عندما نتفق على نوع الهموم والاهتمامات التي تشغل مواهبنا “الجدلية” في الوقت الحاضر، أي حطام الهموم التي اورثتنا اياها حقب التبعية والاذلال والتي وصلت الى ذروتها مع ذلك الذي انتشل مذعورا من جحره الاخير؛ ندرك كم هو بعيد ذلك المطلب عما نعيشه من حال وأحوال، لا تحسدنا عليها قبائل الهوتو والتوتسي التي ادركت قيمة الجدل الايجابي والبناء، بعد مشوار مرير من نهش بعضهم للبعض الآخر. أمامنا مشوار طويل ومرير كي نتخفف من ذلك الارث الذي سحق موروثاتنا ومواهبنا الجدلية، التي برهنت دائماً على قدرتها في ابهار العالم، عندما تمنحها الاقدار الفرصة والشروط اللائقة بها، وكل ما نحتاجه هو اعادة الاعتبار لكل ماهو جدلي ينتصر لجوهر الحياة الحديثة من حريات وتعددية وفضول معرفي وعقل نقدي…
جمال جصاني