سكورسيزي ، دينيرو ، وثورهما الهائج

العلاقة السينمائية التي انتجت أفضل الأفلام السينمائية

خالد ربيع السيد

لا شك أن «مارتن سكورسيزي» المخرج النيويوركي المتميز، قد اكتشف (منذ وقت بعيد) موهبة ذلك الممثل الجديد القادم من أعماق نيويورك الشعبية، من حي برونكس، على وجه التحديد، الحي الذي وجد فيه سكورسيزي ـ فيما بعد ـ عالمه السينمائي الأثير، والذي يمثل دي نيرو عينة مثالية منه، تختزل كل تفصيلاته الاجتماعية، كما يمكن القول على نحو معين : أن روبيرت دي نيرو هو الذي إكتشف مارتن سكورسيزي، وهذا ما سيتضح هنا لاحقاً.. إذ أن سرعان ما بدأت أواصر التقارب الفكري تشتد بين الرجلين، وتتخذ شكل التوافق الرؤيوي، ومنحى التوجه الفني المشترك، مما أدى الى تبلور هذه الشراكة والرؤية المتحدة في القيام بإنتاج عملهما الرابع :الثور الهائج/ Raging Bull في 1980م والذي يعد جماهيرياً ونقدياً الفيلم الأكثر متعة في مسيرتهما الفنية المشتركة حتى ذلك الوقت، والذي أيضاً استحق عنه دي نيرو أوسكاره الأول كأفضل ممثل .

سبر أغوار بعضهما
في تجارب دي نيرو وسكورسيزي السابقة، إبتداء من «شوارع دنيئة» Mean Streets و»نيويورك نيويورك» ثم سائق التاكسي The Taxi Driver1976، كان هناك ما يمكن تشبيهه بعملية السبر لأغوار الإمكانات والقدرات الفنية، كل منهما للآخر، فجاء الثور الهائج كتأكيد لتلك المثابرة الفنية وترسيخ للثقة بينهما، حيث كرس دي نيرو جل مواهبه الاستثنائية، فقام بأداء دور الملاكم الأميركي وبطل العالم للملاكمة في فترة الاربعينيات «جاك لاموتا» .
ذلك الملاكم المشحون بالمشاعر والثائر دوماً، صاحب الشخصية الغاضبة واللوامة التي لا تكف عن لوم الذات والندم على ما كل تفعله، إنه كـ الثور الهائج، لا يمكن كبح جماح إنفعالاته الغاضبة ولا السيطرة عليها.. من هنا نشأ تحدي الشخصية وبريقها الدرامي الذي راهن عليه سكورسيزي، فعمل على تصوير فيلم يتحدث عن العنف.. العنف بصورته الأكثر بشاعة ، العنف القادم من «لاموتا»، والعنف الواقع على «لاموتا» .

جاك لاموتا الفقير والعنيف
«جاك لاموتا» عاش سنوات صباه في حيّ فقير في مدينة نيويورك، من أب مهاجر من إيطاليا وأم خاملة الذكر من فتيات نيويورك المنطلقات.. كانت دروسه الأولى في الحياة هي كيف يسرق وكيف يقتل .. وتعلم منذ صغره على أنه إذا أراد البقاء فإن عليه أن يكون أقوى من الشخص المقابل ، لذلك نشأ فقيراً عنيفاً ووحيداً لا يثق بأحد ، تتملكه أحاسيس مثل الخوف والغضب وكره الذات والإحساس بالذنب وحب التملك السادي .
وعلى هذا النحو تكونت شخصية «جاك لاموتا» وتشكلت في خضم هذه المكابدات و الرغبات، فغدت ـ من الناحية البنائية النفسية ـ شخصية ثرية للمعالجة الدرامية، تستفز قدرات الممثل البارع والمخرج الحذق في آن واحد. واللافت للإنتباه أن دي نيرو هو الذي إقترح على المخرج سكورسيزي صناعة فيلم الثور الهائج، حيث كان قد قرأ في بداية السبعينات كتاباً يحكي السيرة الذاتية لـ»جاك لاموتا»، وتأثر بها كثيراً.. يقول دي نيرو في إحدى المقابلات التليفزيونية في هذا الخصوص: (.. لقد أحسست بأن لهذه القصة قوة خارقة بالنسبة للتحليل النفسي والإجتماعي للبطولة والمجد، ومنذ تلك الفترة شعرت بأن تمثيل هذا الدور سوف يطور مواهبي.. وفي أثناء عملي مع المخرج «سكورسيزي» في فيلم سائق التاكسي أعطيته هذا الكتاب، وتحدثنا في إمكانية تحويل قصته الى الشاشة.. ثم إتفقنا على كل شيء ..) .

تقمص الشخصية حد الانغماس
عندما إضطلع دي نيرو بأداء الكاركتر، حرص تماماً على الإنغماس في كل تفاصيله، فعمل على التدرب والمران المدروس الشاق، وتعلم لمدة سنة كاملة، وعلي يد لاموتا نفسه، أصول وطبيعة وفن الملاكمة وتباعاً لها الحالة النفسية والعصبية التي يعيشها الملاكم داخل الحلبة وخارجها. وبلغت دقة دي نيرو ـ وهذا هو المدهش حقاً ـ في التجهيزات للدور أن إستطاع أن يزيد وزنه ثلاثين كيلوجراماً، في زمن قياسي وهو أربعة أشهر فقط،، ثم أنقصه مرة أخرى خلال شهراً واحداً الى الوزن الطبيعي، (حدث أن زاد وزنه ثم أنقصه مرتين خلال تصوير فيلم المعتصمون / The Untouchables وذلك من أجل الوصول الى الصدق الكامل في أداء الشخصية، وكان له ذلك، حيث بلغت مصداقيته في التقمص الشكلي والمضموني تلك الدرجة التي جعلت لاموتا يصرَّح قائلاً : (دي نيرو قادر الآن على إمتهان لعبة الملاكمة بشكل حقيقي).. لهذا لم يكم من المستغرب أن عمل لاموتا نفسه كمستشار فني في هذا الفيلم وكان ملازماً لـروبرت دي نيرو طوال فترة التجهيزات والتصوير. .
يكمل دي نيرو حديثه عن تجربته في هذا الفيلم، فيقول: (تمرنت على الملاكمة فترة طويلة مع جاك لاموتا نفسه قبل تصوير الفيلم وفي أثناء التصوير، وقرأت كتباً كثيرة عن الملاكمة، وشاهدت العديد من الأفلام عن هذه الرياضة، وذلك لكي أعبر عن هذه الشخصية بأصالة مقنعة، ولكي أفهمها وأتقمصها بشكل إحترافي.. وقد أعطيت نفسي فترة ستة أشهر قبل أن أبدأ التصوير، تحدثت خلالها كثيرا مع لاموتا عن حياته وتجربته، وكان لاموتا مع فريق الفيلم دائماً، ولكننا لم نرغب في حضوره خلال اللحظات الدراماتيكية الصعبة ، لأننا لم نكن نريده أن يتدخل أو يتأذى نفسياً .
ويستطرد قائلاً : إنه من الصعب جداً علي الممثل أن يؤدي دور إنسان على قيد الحياة، فبالنسبة لي كان يجب أن أكون حراً لأمثل دوري كما أفهمه، ولو كان لاموتا معنا في تلك اللحظات الدراماتيكية، حتى لو لم يقل شيئاً، لأحسسنا بثقل حضوره، ولصعب عليَّ أن أمثل دوري بدون توتر وعصبية، لذلك السبب فضلنا أن لا يكون حاضراً في مواقف تصويرية بعينه).

كاركتر غرائبي
وبالرغم من أن الفيلم يستمد مصادره الروائية من سيرة حياة هذا الملاكم الإشكالي، إلا أنه لا يركز على الملاكمة في حياته كخط رئيسي للعمل وكسب العيش، فهي كانت تمثل له اكتساب المشروعية في ممارسة العنف على وفق طريقة منظمة ومحددة بشروط وجماهير متفرجين مما يشبع حاجته التنفيسية ويمنحها جواز العبور الى الحياة أمام الناس وليس وراءهم، فهي إذاً شرعنة العنف عند تفسيرها في لا وعيه ، وهي المعبر الأجلى عن القسوة الساكنة أعماق ذاته، الأمر الذي يوضح بقدر كبير شخصيته الغرائبية .. والفيلم يستفيد من عرضه لهذا الكاركتر ليطرح من خلالها مجموعة من الأفكار ومن أنماط الحياة والبشر .. ومن زاوية أخرى ليقدم عالماً يستوطنه العنف والعدوانية والتعامل بلغة القوة والبطش كنظام تحتمه طبيعة التعامل في ظل الظروف المحيطة بالإنسان الأمريكي في حينه .
يقترب فحو الفيلم ومضمونه من الشخصية الرئيسية فيه «جاك لاموتا» ليكشف الضعف الكامن خلف العنف، ويعري الهشاشة الداخلية لمن يبدو بمثل هذا الجبروت. وبالحق يضع سكورسيزي أمام المشاهد ملاكماً يصارع العالم وحده، ومصارعاً يرتكب كل الوبيقات للفوز والوقوف وحيداً على القمة.. إنه يصارع ويثور ويتعثر، ثم يفوز وينتشي ويهدأ ويندم ويلوم نفسه ثم يتخدر ويصفن ويتقوقع بتأثير ذلك الصراع النفسي الحاد الذي يكابده، مع تولد الشعور بالضعف والخوف واللوم الذي ينتابه جراء ذلك الانتصار، تتحول الحلبة في هذه الحالة الى مكان داخل الجمجمة والذات، والى معركة ذهنية ونفسية حادة .
لهذا كانت الملاكمة أو الصراع الذي يدور على الحلبة ليس هو ما يهتم به الفيلم، وإنما ذلك الصراع الداخلي المتباين داخل الشخصية.. هو ما يوجه الإهتمام به . . فالبطل يواجه معارك أخرى خارج الحلبة، مع الزوجة (كاثي موريارتي) ومع الأخ («جو بيسشي» حائز أوسكار أفضل ممثل مساعد ) ومع الأصدقاء في الحي وفي النادي .. حيث غدا العنف مسيطراً على قلبه وحياته فتتحول علاقاته الى نوع من المشاجرات الدائمة والصخب الدائم مع كل محيطه الإجتماعي .
إن الوصول الى القمة قد أحاله الى إنسان مغرور لا يتوانى في الإنفجار في وجه الجميع، وتوجيه الإهانات الى الجميع.. هذه البطولة أصبحت ترمي عليه عبئا لا يطاق، وتضع على عاتقه أثقالاً لا تحتمل، يكرسها النظام الرياضي الصارم الذي يدفع به الى نوع من التصرفات الشاذة للحفاظ على متانة عضلاته وقوتها … نراه في مشهد يطلب فيه من زوجته أن تمارس معه الجنس قبل المباراة، وعندما تستثيره وترغب هي فعلاً في الممارسة الجنسية يدفعها بعيداً ويهتاج كثور جامح .. فهو هنا يريد أن يحتفظ برغباته المكبوتة، ويحملها معه الى الحلبة لتغذي عدوانيته وشراسته، التي بدورها ستؤدي به الى ضرب خصمه بكل قوة وتفاني وتجلب له الانتصار، هذه الأيديولوجيا التي انتهجها كسلوك وممارسة تحولت الى شعار عريض من الغيرة والإحباط لإحساسه بالتقصير في حياته الزوجية، حيث يتحول الى عاجز عن الممارسة الجسدية، الأمر الذي يتسبب في تحطيم سعادته العائلية ويؤدي به الى الخصام مع أخيه «جو بيسشي»، ثم الشجار مع كل الذين يحيطون به لمجرد أنهم سلَّموا على زوجته.
هكذا أصبح البطل، يقف وحده وسط الميدان، يعارك شكوكه وخوفه من الهزيمة، ويجد إنتصاره وقد تحوَل الى ضغط كبير على نفسه ، فتفكيره يوجد في قبضة يده، وهو يستعمل يده محاولاً أن يجد طريقه عبر تحطيم وجوه الآخرين.

صراع نفسي محتدم
تتصاعد حدة الصراع النفسي التي يخوضها لاموتا ، حتى تصل الى مرحلة تنتفي فيها الفروق، لم يعد يميز بين الأعداء وبين الأصدقاء، كان ينتابه نوع من كراهية النفس والرغبة في الإنتقام منها .. نراه في بداية الفيلم يطلب من أخيه أن يضربه على وجهه بكل ما يملك من قوة ليثبت لنفسه بأنه يستطيع تحمل الآلام التي يسببها له الآخرون.. هنا تظهر لنا صورة أخرى من العنف العائلي، فلا توجد هناك محاولة للتفاهم، إن أي حديث عائلي يعني البحث عن خصام وشجار ومحاولة تحطيم الأثاث.
والمأساة هي أن البطل قد سمح لتلك الأحداث الصغيرة أن تتحول الى عملية إنتقام شديدة لا حدود لها.. فبعد أن فاز بالبطولة، إنتهت به الأحداث الى نوع من الإنهزام المؤلم في حياته الخاصة..فقد هربت منه زوجته «كاثي موريارتي» مع أطفاله، وقاطعه أخوه بعد شجاراتهما، ثم دخل هو السجن بتهمة التحرش بفتاة قاصر، فنراه ينهار في السجن إنهيار تام، ويبدأ في النحيب وضرب رأسه في الجدار إنتقاماً من جسده على الإهانات التي لحقت به.. وأخيراً ينتهي به الزمن بالعمل في أحد الملاهي الليلية، يسلي ويُضحِك الحاضرين في المقهى، والذين يبحثون مثله عن اللهو والمماطلة وتأجيل الواقع الى بعد حين.

سيناريو محكم
هذا هو «جاك لاموتا» الذي نجح السيناريستين «بول شرادر، مارديك مارتن» في تقديم ملف حياته بصورة فنية راقية ، وإستطاع أيضاً أن يعطي حبكة طبيعية لبورتريه «لاموتا»، بعد أن أوضح ملامح تركيب الشخصية على المستوى الفسيولوجي (ملاكم قوي، أكول، غير وسيم… الخ)، وعلى المستوي النفسي (طَموح، قوي الإرادة، جِلّْف، يعاني من الفراغ العاطفي، غيور جداً وقاسي الى الحد البعيد … الخ).. بكل هذه التوصيفات والنعوت، إستطاع كاتب السيناريو «بول شرادر» النجاح في تقديم «جاك لاموتا» على الشاشة.
أما بالنسبة للإخراج، فقد بدت لغة «مارتن سكورسيزي»، في الفيلم بسيطة في التراكيب واضحة في طريقة طرح الأفكار دون حذلقة أو تعقيد.. كما أنه برع في إستخدام مفردات اللغة السينمائية الواقعية ، لإعطاء دلالات فكرية ونفسية لتكريس المعنى العام المراد إبرازه في الفيلم.
وأخيراً، فإن فيلم الثور الهائج سيظل علامة بارزة في تاريخ السينما، وعملاً فنياً مهماً لمخرجه المتمكن مارتن سكورسيزي.. هذا إضافة الى أنه كرس روبرت دي نيرو كواحد من أعظم الممثلين في السينما الأمريكية المعاصرة.
حصل هذا الفيلم على جائزة أوسكار أفضل ممثل لدي نيرو، وأفضل مونتاج ثيلما شونماكير .. وأفضل ممثل مساعد جو بسشي « صاحب الدور المميز في فيلم صحبة طيبة Goodfellas وفي فيلم وحيدا في المنزل Home Alone , وبالتأكيد في فيلمه الأخير مع دي نيرو «الأبرلندي» The irishman.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة