فيلم «JOKER»
صباح محسن
غوثام، مدينة اميركية خيالية مبتكرة، تتمتع بثقلها الاقتصادي الفخم، وايقوناتها المعهودة من شوارع ومقاهٍ وصحف وامكنة مخصصة للمرتادين اكثر خصوصية، وكأي مدينة ضخمة وفارهة ، تحوي تحت جنبات أزقتها وشوارعها الخلفية وبعض من احيائها على الكثير من التناقضات والصراع الاجتماعي والطبقي، فيها اغنياء يستحوذون على كل شيء، ومؤسسات تُدار بأشراف من سلطتهم الممتدة لآخر تخوم المدينة ، وتُخضع ساكنيها لقوانين وانظمة صارمة، واستبدادية ، لكنها تنفرج كثيرا للذين ينتمون لأهل السلطة وحواشيها ! ومثل كل مدينة ضخمة باقتصادياتها الكبيرة، تحوي بين ثناياها الكثير من حالات السحق الآدمي لمنتمي الطبقات السفلى ، او تلك المغيبة من حسابات السلطة الغاشمة التي تتحكم بالمال والسلاح والجيش وبعض من مؤسساتها الامنية الخاصة ، انها مدينة صُنعت من خيالٍ محض ، ولكنها تتشابه مع الكثير من المدن القائمة واقعيا ! وفكرة قيام او انشاء تلك المدينة كانت من صنع خيال قصص الكومك وهي شركة للقصص المصورة ، انثلوجيا ، وحكايات مصورة عن المرأة العجوز والفانوس الاخضر والبرق والتخفي والطيران بطريقة كيفية وخارقة وحكايات اخرى ، قامت بإصدارها شركة دي سي كوميكس ، والتي تأسست عام 1934على يد مالكها مالكولم ويلر نيكلسون ، وصدر منها اكثر من 109 من اعدادها المصورة ومن عام 1942 وحتى عام 1954 وتأثر بها جيل كامل من الاميركيين والاوروبيين بشكل عام ، وزحف تأثيرها على العديد من نتاجات السينما وعلى اختلاف مشارب تناولاتها من افلام الانيميشن الى الافلام التقليدية ، وبعضها صار على شكل مسلسلات طويلة ، وكانت فكرة فيلم باتمان انبثقت من وحي تلك السلسلة .
وفيلم جوكر للمخرج تود فيلبيس ، وهو منتج الفيلم ايضا ، والذي اشترك بكتابة السيناريو مع الكاتب سكوت سيلفر ، ليقوما برسم شخصية جوكر باختصارات متعددة من ذلك التراث المصور والمخصص للفتيان ، وبتأثير من افلام سابقة ك فيلم باتمان وسلسلة سوبرمان الكارتونية ، وبعض من افلام سكورسيزي في تناوله لنماذج عُرف عنها امكاناتها الاجرامية بدوافع مختلفة .
الثيمة التي اشتغل عليها المخرج ، ومن خلفية ما تم رسمه في السيناريو عبر كتابة جميع المشاهد باحكام ، وخبرة ، لإظهار شخصية الجوكر بكامل التباسها ، وانهيارها ، والولوج الفطن لداخل الشخصية وبنائها النفسي والاجتماعي ، ومحاولة ابتكارها خارج سياقها القيمي والاخلاقي ، وزجها في رداء مغاير لتمظهراتها ، عبر حركات وايماءات وضحكات لا تخلو من نظرة تندر واستهجان من المحيطين به . انها محنة ان تُسوّق انموذجا مرتبكا ومهزوزا ، ويعاني عللا نفسية واجتماعية ، وحتى على مستوى الانتماء ، لأي شيء ، وسط مجتمع مأزوم ! ومحاولة تنميته عبر وسائل مقنّعة تدخل ضمن مفاهيم الاجراءات السويّة والطبيعية لنماذج غير مصابة بعلل ومشكلات شخصية الجوكر، وهذا الاشتغال الذي بنى عليه المخرج فيليبس رؤيته الفنية .
شخص يعاني من مرض عدم السيطرة على افعاله ، ضحك مرضي ، حيث يضحك بطريقة متشنجة واحيانا كثيرة يتلوى كي يتخلص من ضحكه ، بمكان عام ، او في اثناء تقديمه لوصلة كوميدية ، بوصفه مؤديا كوميديا في بعض الامكنة التي تحددها له الشركة التي يعمل بها ، وتلك الشركة تاتي بمجموعة مؤدين مغمورين للقيام باضحاك كبار السن والاطفال المصابين بداء التوحد في امكنة مخصصة لهم .
لا قدرة له بالخلاص من ضحكٍ في غير محله مع توحد، يصاحبه صراع
داخلي مرير عن اصوله العائلية ، بجوار ام مريضة. يكتشف فيما بعد انها متبناة له ، وليست امه الحقيقية
مع احساسه العارم بالتهميش ، والاقصاء ، لاسباب كثيرة ، ومنها مرضه ، الذي يجعل منه كائنا حساسا ، وغير ميال للاختلاط ! وحتى اصدقاءه ليس له شأن بهم ، لأنه يرى بنظرتهم له شيئا من الاستهانة ، كونه يتصرف ويتحرك بطريقة لا يستسيغونها.
انه كائن وحيد ، ومنزو ، مع جسده الضئيل ، وافكاره ، وقناعاته التي تُصور له تفرده ! مع انه لاقدرة له على اقناع طفل .
تتصاعد احداث الفيلم ، لتظهر على سطحها تحولات السيد آرثر فيلك الذي اقترح لنفسه اسم جوكر، بعد لقائه التلفزيوني الاول مع مقدم برنامج كبير وشهير يقوم بقتله وعلى الهواء مباشرة وامام حشد من المشاهدين داخل استوديو البرنامج ، وعلى الملأ من خلال بثه عبر التلفاز .
كائن يخرج من ثنايا نظام مستبد وسلطة فاسدة وعلاقات اجتماعية واسرية تنخر في عمقها اللامبالاة والعدمية ، والانحلال ، لتفضي الى طرق مغلقة ومعتمة . كائن يعيش على الاعانات الدوائية لعلاج مرض الضحك الانفعالي ، والتوحد ، يحصل على دفعة ادويته من مستشفى آركام المقترح للمصايين امثاله بلوثة ما ، وحين تتوقف الدولة عن ايقاف صرف الادوية وقطع الاعانات عنه بحجج واهية تبدأ تحولاته الكبرى برفض كل شيء ، حتى انه يقوم بقتل امه او المرأة المتنباة له لانه اكتشف بعد مراجعة مستشفى المدينة بانها كانت تعاشر عمدة المدينة حينما كانت تعمل في منزله ، وتخلي العمدة عن الاعتراف بأبوته له وطرد امه .
ان آرثر فليك ، الجوكر ، هو نتاج مطحنة بشعة بمكانة سلطة غاشمة ، ومجتمع يعيش وسط ظلام مدينة كئيبة ، تنتج الكثير من عدم وضوح الرؤية ، وحالات صراع غير متكافيء بين من يستحوذون على مقدرات المدينة عبر علاقات فاسدة ومريبة ، وتفكك اسري طاغ ، وحرمان مرير من ابسط حقوقه كأنسان ، وشعور متفاقم بالتحييد والتنكيل من مؤسسات ينبغي لها رعايته .
آرثر فليك ، او الجوكر ، وبحسب مجريات الفيلم ، برقصاته ، وحركاته الخارجة عن المألوف ، وصوته الخافت والانثوي ، وميوله الغريبة بالاقنعة المنتشرة في المحال التجارية للمدينة ، وتماهيه معها ، ومع ضحكه الجامد ، حتى وهو في اقصى مباهجه ؟
يقتل اقرب اصدقائه راندل ، في شقته الكئيبة ، ويعفو عن صديقه القزم غاري لانه الوحيد الذي عامله بلطف حسب تعبيره، ويقتل ثلاثة شبان قاموا بمعاكسة فتاة وحيدة في المترو ، وقيامه بالضحك الهستيري امام دهشتهم ليقوموا بالتجاوز عليه باللفظ والايادي ، ليطلق عليهم النار من مسدس اهداه له راندال للدفاع به عن نفسه على ما ذكر له ذلك في اثناء اهداء المسدس له والذي ايضا تسبب بطرده من عمله في احد ملاجيء العجزة ،
وحين اعتقاله بعد قتله لمقدم البرنامج الشهير موراي فرانكلين والذي جسد شخصيته الممثل الكبير روربرت دي نيرو ، لتكون حالة القتل تلك مفتتحا لاحتجاجات شعبية عارمة في كل ساحات المدينة ، بعد تفاقم حالة الصراع الواضح بين الشعب والسلطة ، والتي دفعت باتجاه الاحساس بالحيف من سلطة غاشمة ابتلعت مقدرات المدينة ببشاعة اطماعها ، لتشتعل كل الساحات بالاحتجاحات وتدمير كل ما له علاقة بالسلطة الحاكمة ، واحراق المحال التجارية والمؤسسات الحكومية وقتل عناصر الشرطة الخاضعة لتلك السلطة ، تنديدا بحال الاقصاء والتهميش التي يعاني منها جمهور مدينة غوثام .
حين يُسأل آرثر فليك ، الجوكر من قبل موراي فرانكلين عن سبب اختياره لاسم الجوكر وهل الاسم له علاقة بالاحتجاجات التي تحتل ساحات المدينة يرد عليه بأنه لاعلاقة له بهذه الاشياء ، ويؤكد على عدم اهتمامه بكل شيء ، وهنا يتأمله موراي ، ويضحك ؟
جوكر ، كائن خالٍ من اي فكرة للانتماء ، هو كائن وحيد ومريض وغير ميال للاحتكاك مع الناس ، يضحك بحسب ما يرى الامر مضحكا ، ويصمت فيما الناس يضحكون ! يقتل ثم يرقص بطريقته ، يتلوى ، ويمد يديه للفراغ يمينا وشمالا ، من دون حكمة ، او وجهة نظر منطقية ! هو نتاج مخيف ومرعب حين تتحول السلطة لغول يبتلع الفقراء ، والمعوزين ، والمرضى ، هو صورة لمظاهر الطغيان حين يمتد لروح الانسان ليدمرها .
التعبير بالرقص بعد ازالة انسان من الوجود ، بعد قتله ، اقصى حالات التمرد ، والرفض ، والانفلات من أسر استبداد لاينتهي ،،
فيلم هوليوودي بامتياز ، ثيمة تتكرر بافلام عديدة ، بعضها يأخذ حصته من الانتشار والتأثير ، وبعضها يتعثر في عرضه الاول .
كان الممثل النشط ، والالمعي خواكين فينيكس ، والذي أنزل وزن جسمه لاكثر من 25 كيلو غراما ليتماهى مع شخصية الجوكر .
كان متمكنا ، وحاول وبوعي منه ايجاد منطقة جديدة بتقديم أداء تمثيلي مغاير ، لتقديم درس في الاداء ، وهذا يحسب له ، واعتقد انه سيكون مرشحا ساخنا لحيازة الاوسكار .
فيلم نفسي بامتياز ، خرج علينا ببدعة الجوكر والتي حاولت هوليوود تسويقها بطريقة مقبولة واعتماد شخصية الجوكر لتنمية حالات الرفض والتمرد على كل شيء حتى وان كان الانموذج الرافض والمتمرد بلا هدف او انتماء ..