الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967
تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.
الحلقة 2
جاسم المطير
اليوم وضعت إمامي سؤالا: لمن يجب الطاعة بعد 41 عاما من نجاح العملية،
هل الطاعة للمفخرة الذاتية لهذا أو ذاك من الأشخاص ..؟
أم للحقيقة .. ؟
هل لفرد أم للجماعة ..؟
ماذا تعني العدالة ،هنا ، وبأي اتجاه تنصرف ..؟
خدمة الحقيقة هي واجب سام ٍ ، من دون أدنى شك . هذا القول ابدأ به في محاولة من الضمير الذي يجبرني كواجب أسمى من واجبات كشف حقائق تتعلق بنضال السجناء الشيوعيين من اجل نيل حريتهم بإحدى وسائل اقتحام جدران السجون والتحرر منها بتحد ٍ هادئ مرة ، وبانفعال ٍ ظاهري في مرة أخرى ، حسب ظروف هذا السجن أو ذاك ، أو حسب استبسال هذا السجين أو ذاك ، أو حسب الطرق والوسائل البطولية التي توفرها المصادفات المحيطة بظروف السجين الذي يقتنص غفلة السجان . لاحظتُ مؤخرا ، وجود نقاش ، أو تأمل ، متعدد الأوجه حول قضية الهرب من سجن الحلة المركزي عام 1967 وهي القضية التي أحيطت بكثير من التعقيدات والتفسيرات وبكثير من التحفظات وبكثير من الادعاءات من قبل بعض الذين تناولوا عملية الهرب بالبحث عن أصولها وفروعها . وقد وجدت بحثا متواصلا ، كما بدا لي ، من قبل الكاتب محمد علي محي الدين ( وهو لم يكن سجينا في سجن الحلة ) بعد أن نشرتُ تعقيبا حول مقالة نشرها هو لم تسلم من أخطاء منقولة عن آخرين بما يتعلق بعملية الإعداد للهرب من داخل السجن ، مؤكدا للمرة الثانية أنني لست معنيا بما يتعلق بموقف بعض أعضاء المنظمة الحزبية في مدينة الحلة والتي تحدث محي الدين عنها كثيرا في مقالته . لقد كان الصديق محي الدين قد اتخذ نموذجا ديمقراطيا طيبا حين بدا في تعليقه على تعقيبي يوم 3 – 5 – 2008 معتذرا بيد ٍ مصافحة ٍ عن الخطأ الحاصل في بعض المعلومات التي أوردها بمقالته مبرهنا بشكل صحيح أن الموقف الصحيح يأتي دائما بنصرة التفوق المعنوي للحقيقة ليس غير . لكنه سرعان ما أثار استغرابي مجددا عندما ما راح مواصلا البحث عن ” الحقيقة ” في كتابات آخرين وهو أمر مشروع في عملية البحث والرصد ولا شك . لكن حين وصل إلى صعيد غير متوازن فأنني أجد ضرورة تنبيهه من جديد أن لا يتجاوز على حقوق مساهمات حية في إنجاح عملية الهرب بوصفها عملية شيوعية بحتة خضعت للأعراف الشيوعية ” العامة ” رغم أنها واجهت ظروفا شيوعية ” خاصة ” ” وأعني بـ”الخاصة ” هنا ما تعلق صراحة بموقف سجناء الحلة بانشقاق القيادة المركزية ، إذ بدا واضحا في بعض سطور كتاباته الجديدة انحيازا خفيا لبعض ما جاء في كتابات آخرين ـ هم ليسوا موضوعيين ــ باعتبارها حقيقة معرفية مطلقة عن عملية الهرب ، وهذا أمر غير مشروع في نتائج أي باحث موضوعي .
ليس لي أي اعتراض على انحيازاته إن أراد ذلك ، فهذا شأن خاص به وبرغبته إذا أراد الابتعاد عن الموضوعية . وربما يكفيه فخراً أن يكون منشطا حيويا مجددا ليجبر كل ذوي العلاقة للدخول إلى الموضوع وتوثيقه من إحدى زواياه . لكن ليسمح لي بالقول والتحذير أن زيادة طرح وتقديم معلومات خاطئة أو غير دقيقة من شأنها أن تزيد في التعقيدات وتعرقل عملية التوثيق التي ينشدها الجميع .
خلال الأسابيع القليلة الماضية مرت عليّ سريعا ضغوطات كثيرة من قبل بعض الأصدقاء من الشيوعيين العراقيين ، والشيوعيين السابقين ، ومن غيرهما ، من داخل العراق ومن خارجه ، ومن بعض سجناء الحلة في تلك الفترة ، ومن غيرهم . بل وقد استلمت رسالة في الأسبوع الماضي من الفنان مقداد عبد الرضا أعلمني فيها برغبته الفنية النبيلة عن إنتاج فيلم سينمائي عن العملية راجيا مني المساهمة في كشف الحقائق المتعلقة بالهرب عن طريق مقابلة فلمية ، سينمائية أو تلفزيونية ، مؤكدا رغبته في السفر إلى سوريا لعمل مقابلة سينمائية مع مظفر النواب أيضا كجزء من محاولته في التوثيق السينمائي . ورغم أن هذه الفكرة مناسبة وملائمة وهي جديرة بالدراسة والإعداد إلا أنني أعلمته أن مثل هذا القرار مرهون بموافقة جماعية وبمساهمة جماعية من قبل جميع المشاركين في العملية ، تخطيطا وتنفيذا ، لأن كل فرد من المساهمين يعرف ” جزءا ” من العملية ولا يعرف ” كل ” أجزائها . فمثلا أنا شخصيا لا أعرف عن الجهد الخلاق لحفاري النفق . كما أن حفاري النفق لا يعرفون جهود المخططين وعلاقاتهم خارج النفق ، التي مهدت وعززت نجاح حفر النفق ، بمعنى أن لكل ٍ دوره المحدد في العملية الكبيرة مما ينبغي على الباحث ان يكون أكثر قربا من جميع الوقائع حتى يتوصل إلى صلب الإرادة الجماعية والعمل الجماعي المشترك.
صحيح أن الله خلق كل البشر أذكياء ومنهم سجناء الحلة وفي مقدمتهم الذين كتبوا عن عملية الهرب لكن الشيء موضع التساؤل دائما هو حجم الذاكرة التاريخية المتبقية لهذا السجين أو ذاك أو لهذا الكاتب أو ذاك بعد مرور أكثر من أربعين عاما على ذلك الحدث .
لابد من القول أولا أن تناول قضية الهرب من سجن الحلة المركزي لا تعتمد فقط على موهبة الكتابة بل على معرفة حقيقية واقعية لجميع حلقات سلسلة هذه العملية التي جرى تخطيطها بسرية تامة كما جرى تنفيذها بسرية تامة أيضا . بمعنى آخر أنها بحاجة إلى توثيق موضوعي وجماعي.
بالتأكيد أن أي كاتب يلتزم الموضوعية عليه أولا وقبل كل شيء أن يلم بالبحث التجريبي القادر على جمع معلومات ” كل ” الذين ساهموا بالتخطيط والتنفيذ وجمعها بعدالة تامة وبموازنة تامة كي لا تبقى التجربة محبوسة في قفص فردي أو ذاتي تضيق بداخله الحقائق بالادعاءات فقط . فما يعرفه حسين سلطان عن الهرب هو ” جزء ” من الحقيقة وليس كلها .وما يعرفه مظفر النواب هو أيضا ” جزء آخر ” وكذا القول عن ما يعرفه فاضل عباس أو حسين ياسين أو جاسم المطير أو نصيف الحجاج أو عقيل الجنابي أو حميد غني آو كمال ملكي أو حافظ رسن . كل واحد من هؤلاء او غيرهم يملك في ذاكرته حدسا ما أو مفتاحا ما من مفاتيح العملية أو انه يملك خطوة ما في مسيرة العملية الطويلة المعذبة والمرهقة . بالتأكيد لم يكن أي شخص من السجناء يملك لوحده كل مفاتيح العملية أو مغاليقها . وهنا أريد تكرار القول ان الحقيقة تضيع عندما يعتقد أي شخص من الهاربين من سجن الحلة بأنه يملك معرفة ” كل ” شيء ويعرف وظائف ” كل ” مساهم بالعملية السرية . من يعتقد ذلك فهو غير منصف وربما هو من نوع الناس الذي يحب أهواءه الفردية أكثر من حبه لإرادة الجماعة وفعلها .
كما أؤكد أن المساهمين في التخطيط والتنفيذ لا يملك أي واحد منهم ذاكرة سقراط كي يدون بالتفصيل ولا حتى بالمختصر عما يمكن أن تلهمه ذاكرة “جميع ” المساهمين لو اجتمعت ، وهذا ما لم يحصل سابقا مع الأسف الشديد .
أيها الأخ محمد علي محي الدين ،
أيها الأخ نعيم الزهيري ،
أيها الأخ علي عرمش شوكت ،
أيها الأخوة الباحثون عن الحقيقة أنني امجد جهدكم جميعا من أجلها ، لكن حاذروا من العجلة والتسرع . لا تتسرعوا في الأحكام ونشر معلومات غير مدروسة جماعيا . وسأطيع الحقيقة ، هنا ، أكثر مما أطيع الذات أو أندفع خلف ” أخلاق ” الادعاء المجرد ، كما يعتقد البعض ، ظلما ، في أشارته عند تناول القضية . طالما عندي الآن نفحة من حياة وعندي ذاكرة مشحونة إلى حد لا بأس به ، فأنني أتقدم بمساهمتي عن كشف بعض جوانب الحقيقة التي اعرفها مباشرة وليس نقلا عن آخرين، وهذا هو ما يأمرني به الضمير وأقول لكم مقدما أنني غير مهتم ببعض جمل ٍ وردت ضمن ملاحظات وآراء غير مفحوصة ولا مؤكدة تضمنت الإساءة لي شخصيا وتقويلي كلاما لم أقله ، وبعضها أبعد فعالية مظفر النواب من العملية كلها بينما كان دوره أساسيا في العملية منذ ساعة بدايتها وحتى نهايتها ، كما سأوضح ذلك لاحقا حين ترك عالمه الهوميروسي ــ الشعري ، مضحيا بما قد تجود به موهبته الشعرية الفذة خلال أشهر عديدة من وجوده داخل سجن الحلة عندما حولته واجبات الاستعداد والعمل اليومي المتواصل لتحقيق فعل الهرب الثوري إلى مناضل جيفاري محترف يتابع بروحه العميقة كثيرا من الأعمال اليومية الدقيقة والصغيرة التي صاحبت العوامل المؤهلة ووفرتها لنجاح الهرب وتوجيه الصعقة لنظام رجعي بائس في ذلك الزمن .