آنا بورشفسكايا
يُعد النقاش المفتوح والاحتجاج السلمي الحر أمران نادران في العالم العربي. ولكن هذا الشهر شهدتُ الأمرين معاً عندما سافرتُ إلى العراق.
لقد حضرتُ مؤتمراً جرى فيه نقاشٌ بين رجال ونساء عراقيين طرحوا خلاله علانية أسئلة صعبة على حكومتهم. ورأيتُ أيضاً مجموعة صغيرة من المتظاهرين المسالمين في الأول من تشرين الأول/أكتوبر. وفي تلك اللحظة، وقف أفراد قوات الأمن بكل هدوء.
بعد مضي ستة عشر عاماً على الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وأطاح بصدام حسين، يواجه العراق تحديات هائلة، إلا أنه لا يزال يتمتع بدرجة من الحرية لا تتمتع بها أي دولة في الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل وربما تونس. وإذا استمرت الولايات المتحدة في تجاهل العراق، فستضيع هذه الحرية الهشّة التي حققتها البلاد بشقّ الأنفس.
إنّ توافر الأمن والفرص الاقتصادية هو أمر هام. لقد احتج العراقيون هذا الشهر لأنهم سئموا، وبحق، من نقص الخدمات الأساسية وتفشي الفساد والبطالة على نطاق واسع، فضلاً عن النفوذ الإيراني المتزايد في بلادهم.
وهذا الشعور بالإحباط لا يأتي فقط من السنة العراقيين، بل من الشيعة أيضاً. وفي الواقع، تُظهر استطلاعات الرأي أنّ الطائفية في العراق قد انخفضت في السنوات الأخيرة، لتنمو محلها النزعة القومية، الأمر الذي يشكّل تطوراً إيجابياً.
لكنّ العراق يقف عند مفترق طرق. فمع اتساع رقعة المظاهرات السلمية والعفوية، فتحت الأجهزة الأمنية نيرانها وفرضت حظر التجول العام وقطعت الإنترنت.
[وخلال فترة الاحتجاجات] قُتل أكثر من 100 متظاهر وسقط آلاف الجرحى. وأدان الرئيس العراقي برهم صالح استخدام القوة الفتاكة ضد المحتجين ووعد بمقاضاة المسؤولين. إن الأمر متروك الآن للحكومة لمتابعة هذا الوعد، وتنفيذ إصلاحات حقيقية. ولكن، لا يمكن للولايات المتحدة الابتعاد عن ذلك.
أثناء فترة وجودي في بغداد، تحوّل تفكيري بين الحين والآخر إلى روسيا، البلد الذي ولدتُ فيه – والذي أضاع فرصة انتقاله إلى الديمقراطية في التسعينيات. ونتيجة لذلك برز فلاديمير بوتين، وأعاد تعزيز السلطة ونزع الديمقراطية الناشئة في روسيا في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي.
لا أستطيع التحدث باسم الكثيرين، ولكن البعض في بغداد أعربوا لي بصورة شخصية عن قلقهم الخاص من أنه إذا لم تتغير الأمور قريباً، فإنهم يخشون من ظهور زعيم قوي آخر.
وهذا هو آخر ما يريدونه، لأن الأمن الذي يُروج له الرجال الأقوياء المحتملين غالباً ما يكون وهمياً، ولأنه، وعلى مرّ التاريخ، يجلب الطغاة الخراب بدلاً من المساهمة في نهضة البلاد.
إنّ العراقيين محقون في الاحتجاج على النفوذ الإيراني الراسخ والمتنامي في بلادهم، ولكنّ الوضع أسوأ مما قد يدركون. فهناك استبداديون آخرون يصبون أعينهم أيضاً على العراق، ومن دون تدخل أمريكي، سيكون من السهل عليهم أن يشقوا طريقهم وينجحوا.
وكان الكرملين – الذي عارض بشدة الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003 – قد عمل لسنوات من أجل العودة إلى العراق، وسارع في جهوده في هذا الصدد في السنوات الأخيرة. ومؤخراً وافقت تركيا أيضاً على دعم الكهرباء في العراق، بينما لجأت بغداد إلى الصين كذلك لتمويل عملية إعادة الإعمار.
إن حالة الإرهاق التي عانت منها أمريكا في العراق قد بدأت قبل سنوات. فقد قام باراك أوباما، الذي كان في ذلك الوقت السناتور الديمقراطي عن ولاية إلينوي، بحملة لإخراج القوات الأمريكية من البلاد. وقد مرّ ما يقرب من عقد من الزمن منذ أن جاء وزير الدفاع آنذاك ليون بانيتا إلى بغداد لإنهاء المهمة الأمريكية رسمياً، مما خلق فراغاً سرعان ما ملأه تنظيم «الدولة الإسلامية». واليوم يتحدث الأمريكيون – والرئيس ترامب – بشكل متزايد عن الخروج من «الحروب التي لا تنتهي».
يمكن قَوْل الكثير عن الأخطاء التي ارتُكبت بعد غزو العراق عام 2003، ولكن لا يمكن الإنكار بأنه جلب الحرية. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنّ 40 في المائة من العراقيين ولدوا بعد عام 2003، ولا يعرفون سوى ديمقراطية العراق غير المستقرة. ولكن مع تلاشي صدام من الذاكرة، من المحتمل أن يصدّقوا الوعود البديلة بصورة أكثر.
آنا بورشفسكايا زميلة أقدم في معهد واشنطن