الفيلم الإيطالي «فورتوناتا»
عبد الكريم قادري
لا أحد يستطيع أن ينكر فضل السينما الإيطالية على العالم، فقد كانت مشتلة نشطة، ابتكرت العديد من المذاهب والتيارات السينمائية، التي نهلت منها جميع سينمات الدنيا، سواء كبناء بصري وجمالي على مستوى الفيلم، أو كاتجاه فكري موضوعاتي، وقد تحولت مع الوقت إلى مدارس وتيارات، انعكست على معظم المخرجين، ومن خلالها تم إنتاج روائع عالمية، ما تزال تُعد كعيون السينما على مدار التاريخ، لثقلها الجمالي، وانتصارها الكبير للفن، هذا الوهج الكبير للأسف لم يدم طويلا، بل بدأ ينقص تدريجيا مع الوقت، لعديد الأسباب، أهمها سطوة السينما التجارية، التي عوّدت المُتلقي على نهج سينمائي معين، ناهيك عن مُتطلبات هذه الصناعة التي تشهد تغيُرا سريعا كل يوم، لكن كل هذه العوائق لم تقض على السينما الإيطالية، بل ما تزال تحافظ على جمهورها، وشعلتها وإن نقصت لكنها لم تنطفئ نهائيا، ومن حين لآخر، نشاهد فيلما إيطاليا جديدا، يجعلنا نطمئن على هذه السينما، وإرثها الذي بناه فلليني، دي سيكا، بازوليني، بيرتلوتشي، وغيرهم، ونراهن على أنها ستتعافى أكثر مع الوقت، والفيلم الإيطالي «فورتوناتا Fortunata « ، للمخرج والممثل سيرجيو كاستيليتو، خير دليل على أن هذه السينما بخير.
مفاجئة السيناريو وكاتبة النص
حين أنهيت مشاهدة فيلم «فورتوناتا»، غمرتني طاقة إيجابية، وأول تساؤل تملّكني هو، «من هو كاتب السيناريو»، بحكم أنه – أي السيناريو- كان قويا ومتماسكا، وغير متساهل مع أي تفصيل أو زاوية، وكأن صاحبه قام بعملية حسابية دقيقة، اشتغل من خلالها على كل تفاصيل ومساحات الفيلم، لم يترك أي جزئية بسيطة للصدفة، وعندما عرفت اسم الكاتب، أو بالأحرى الكاتبة، زال هذا العجب، لأن الأمر يتعلق بالروائية الإيطالية مارجريت مازنتيني، وبالمناسبة هي زوجة مخرج العمل سيرجيو كاستيليتو، إذ سبق وأن تعاونا في العديد من الأفلام، أهمها، فيلم « Venir au monde «، 2012، الذي لعبت دور البطولة فيه بنولبي كروز، وقد كتب السيناريو المخرج بالتعاون مع زوجته طبعا مارجريت، وقد أثار الفيلم جدلا واسعا وقتها، ونال عديد الجوائز والتكريمات عبر العالم، إضافة إلى فيلم «لا تستطيع إنقاذ نفسك بنفسك» الذي أنتج سنة 2015، ناهيك عن كتابتها للعديد من الأعمال الأخرى التي نالت شهرة واسعة، سواء مع زوجها أو مع مخرجين آخرين، وعلى خلفية هذه التراكمات والتجارب التي خاضتها كاتبة القصة، السيناريو والحوار، جاء العمل غنيا بالقصص الثانوية، التي ما إن تخرج من واحدة حتى تدخل في أخرى، من دون أن تحس بالغربة اتجاهها، مع تبرير سبب وجودها، الذي جاء بالأساس لمؤازرة القصة الرئيسة، والتعريف بكل شخصية في الفيلم، أين تم إظهار ماضيها -أقصد كل شخصية في الفيلم-، أحلامها، كوابيسها، بعيدا عن التقريرية في التقديم، مع إعطاء كم هائل من المعلومات من دون أن يتم إشعار المُشاهد بالمباشراتية التي تقتل الفن وتبيده، ناهيك عن هندسة الفيلم وبنائه، الذي سمح بنقل هذه المعلومات، وتوزيعها على كل مشهد، ما خلق موازنة تجعل من فعل المشاهدة مُحمّلا بالمتعة والترفيه، تُشعر بالارتياح، وتبتعد عن الملل، وتراتبية الزمن البطيء، الخالي من الإثارة والترقب، كل هذا الفضاء تنتقل من خلاله الشخصيات بكل راحة، وكل فعل وردة فعل مبررة، كل فرد يتحدث ويتصرف حسب مرجعيته الاجتماعية التي رُسمت له، والتي يعود سبب تكوينها الأول إلى الماضي/الطفولة، والتأثير الذي يحدثه هذا التراكم على تكوين شخصيته في الحاضر، يعني كل الأفعال لها دوافع صنعها الماضي.
فورتوناتا حظ عاثر وعثرات
قبل أن نتحدث عن شخصيات الفيلم وأحداثه التي تدور في نحو 103 دقيقة من الوقت، لا بد من المرور على ملخص العمل، الذي ذُكر فيه حسب ما جاء في بطاقته الفنية بأن « «فورتوناتا» تعيش حياة صعبة، فهي أم لفتاة تبلغ من العمر ثمانية أعوام؛ نتيجة زواج فاشل. تعمل مصففة شعر في المنازل، تنتقل من الضواحي إلى المدينة؛ لتذهب إلى منازل الأثرياء كي تصفف شعر النساء. تكافح «فورتوناتا» يوميًّا عازمةً على تحقيق حُلمها: أن تفتح صالونًا خاصًا بها في محاولة لتحرير نفسها والحصول على استقلالها والحق في بعض السعادة. هي تعلم أنها لتحقيق أحلامها يجب عليها أن تكون صلبة: فكرت في كل شيء، وعلى استعداد لمواجهة أي شيء، ولكنها لم تضع الحب في اعتبارها، القوة التدميرية القادرة على سحق كل يقين». في هذا الفلك تعيش «فورتوناتا» والتي يعني اسمها «المحظوظة»، وقد أدّت الدور الممثلة المشهورة «جاسمين ترينكا»، حيث نجدها تجري في كل الاتجاهات، ترتدي تنورتها القصيرة، وتجر حقيبة معداتها التي تحتوي على أدوات تصفيف الشعر، وتتجه من شقة لأخرى لكسب لقمة عيشها وتحقيق حلمها في فتح صالون حلاقة في الحي الذي تسكن فيه.
استطاعت الممثلة الجميلة جاسمين ترينكا التي جسدت دور «فورتوناتا» والتي سبق لها وأن حصلت على جائزة أحسن ممثلة في مسابقة «نظرة ما» بالدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي، أن تفهم هذه الشخصية المركبة وتشربها جيدا، بحكم أنها تملك تجربة متنوعة في التمثيل، إذ سبق لها وان لعبت دور البطولة في العديد من الأفلام، أهمها فيلم « Miele» 2013، الذي أخرجته الممثلة الإيطالية الكبيرة فاليريا غولينو، وقد شارك هذا العمل في أهم المهرجانات العالمية وحصد عديد الجوائز، هذا التجارب الممتدة والمتنوعة سمحت لها بأن تتوحد مع شخصية «فورتوناتا»، والدليل تلك التقلبات النفسية والجسدية التي عاشتها في هذا الدور الصعب، حيث كان من غير المسموح لها بالتراجع أو الخطأ، لأنه من الممكن أن يحدث هذا خلطا في مفاهيم الفيلم ومغزاه، وعليه وجب على جاسمين أن تعيش وتُعايش حاضر وماضي فورتوناتا سيئة الحظ، الماضي الذي يمثله والدها المدمن، الممدد على شاطئ البحر، فيما تنساب المياه إلى جوفه، ولا يستطيع أن يحرك ساكنا، وفورتوناتا الصغيرة ذات الثمانية أعوام، تشاهد كل هذا ولا تفعل شيئا، ما جعلها تكبر، وتعيش مع فكرة أنها قتلت والدها، لأنها لم تفعل له شيئا لأنه مدمن، والحاضر الذي يعكسها دورها كأم مطلقة مسؤولة عن طفلة ذات ثمانية سنوات، تبحث عن سبيل لتحقيق حلمها وتحسين حياتها، وسط جو مكهرب، حيث ينقصها المال، ناهيك عن عنف زوجها السابق فرانكو»Edoardo Pesce «الذي يرى أن لديه كل الحق في أن يفعل بها ما يشاء، لأنه يدفع كراء البيت، ناهيك عن محاولات صديقها وجارها الذي يحبها في صمت شيكانو « Alessandro Borghi «، ليدخل بعده الطبيب النفسي باترزيو « Stefano Accorsi «، ويدخل في قصة حب مع فورتوناتا، والذي تعرفت عليه من خلال جلسات العلاج التي كان يقدمها لابنتها بأمر من القاضية المشرفة على عملية الطلاق.
وسط هذه البؤرة من الأحداث، تعيش فورتوناتا وتتخبط بين الكابوس والحلم، بين شخصيات يعاني معظمها من عقدة الأب، أي سلوكياتهم كلها مُسيرة بأحداث من الماضي، كان الأب طرفا فيها، حتى الطبيب النفسي يعاني هو الأخر من عقدة الأب الذي تركه وهو صغير وهاجر إلى إفريقيا، وحين كبر ولحقه سأله عن الأشياء التي يفتقدها في جنوا بحكم أنها مدينته، وبعد أن فكر مليا قال له «البيتزا»، يعني لم يندم على تركه ولا يحس بفقدانه، على عكس البيتزا، و»شيكانو» يعيش وحيدا من دون أب، مع والدته المريضة التي ما تزال تعيش أحد الأدوار التي أدتها في شبابها «أنتجون»، هكذا يعيش الكل، ما جعلهم مرضى نفسيين يعيشون في مستشفى كبير اسمه المدينة.
قضايا المهاجرين والاندماج
أعتقد بأن أجمل ما في الفيلم هي أن يتحول الهامش إلى متن، والمتن إلى هامش، وهنا ظهرت خبرة المخرج سيرجيو كاستيليتو، الذي أبرز المشكلات الجوهرية التي باتت تتخبط فيها ايطاليا حاليا، بسبب الهجرة التي نخّرت جسدها، وباتت تُهدد هويتها، دون أن يتورط في المبالغة أو يتحامل على الأجناس الأخرى، مثل الصينيين أو العرب، فقط أشار إلى المشكلة من دون أن يقترح بدائلا أو حلولا، كان يمكن أن تكون عنصرية مثلا، وتفسد جوهر الفيلم، أين نلاحظ في بداية الفيلم مجموعة من الصينيين يمارسون رياضة اليوغا في الساحة العمومية، أو مجموعة من المصليين المسلمين يؤدون صلاة جماعية على أحد الطرق، من خلال صورة بانورامية من الأعلى، وهي المنطقة التي يفصلها صور يعود إلى حقبة قديمة، وربما إلى الإمبراطورية الرومانية، وكأنه يفتح مقارنة بين ايطاليا الأمس، التي كانت تعني القوة والحضارة والازدهار والحافظة للهوية، بل والمصدرة لها، وبين ايطاليا اليوم التي تعاني هي الأخرى من التشتت والخوف من الآخر، وأكثر من هذا أن يجسد حدثا دراميا، وهذا من خلال البطلة فورتوناتا التي لم تجد سبيلا لتحقيق حلمها في فتح صالون حلاقة، سوى اللجوء إلى عائلة صينية تتعامل بالقروض المالية، وحين عجزت فورتوناتا عن تسديد هذه العروض تم حجز صالونها، وأصبح ملكا للصينيين، يعني الدخيل/الصيني، ووئد حلم المواطن ابن البلد/فورتوناتا، ناهيك عن بعض الإشارات التي جاءت على لسان الأبطال، مثل الصينيين هم قادة العالم، أو التخويف من خطورة العرب، وقد جاء هذا التخويف مثلا على لسان الشرطي فرانكو زوجها، من أجل تقديمه على أنه عنصري يكره العرب والأجانب، ويمكن أن يحدث مشكلات ما مستقبلا، والدليل عصبيته الزائدة حين هدد زوجته بالسلاح، ما بالك بشخص آخر، والدليل على قوة هذه المقارنة هو الحضور الطاغي للصور القديمة في جميع مراحل الفيلم الزمنية، وكأنه أصبح لازمة فيه.
على العموم قدم لنا المخرج سيرجيو كاستيلتو فيلما محترما، أدى من خلاله كل فرد مهمته بكل مهنية، سواء من ناحية التمثيل، أو السيناريو، أو احترام العناصر الأخرى التي شكلت في مجملها الفيلم ككل.