رجب أبو سرية
وجه إسرائيل البشع، لا يقتصر على احتلالها وقمعها المتواصل منذ اثنين وخمسين عاما، لأرض دولة فلسطين وشعبها المقيم عليها ضمن حدود العام 1967، بل إنه يمتد ليشمل أولئك المواطنين من دولتها، والذين يتحدرون من الأصل العربي الفلسطيني، والذين يتعرضون بنحو متواصل للتميز على أساس العرق والقومية منذ نشأة «الدولة» حتى هذه اللحظة.
وأصل التمييز ضد العرب من مواطني «دولة إسرائيل» يعود إلى أول يوم تم فيه إعلان دولة إسرائيل، حيث كان ديفيد بن غوريون، مؤسس تلك الدولة، يفكر في عدم منح الجنسية الإسرائيلية لمن بقي صامدا على أرضه من العرب الفلسطينيين، وحرمانهم من حقوق المواطنة، بما في ذلك عدم المشاركة في انتخابات الكنيست الأولى التي جرت عام 1949، لا بالترشح ولا بالاقتراع، وذلك حتى يبقي الباب مفتوحا أمام إمكانية ترحيلهم من وطنهم.
لكن هذه السياسة جوبهت بمقاومة عربية عبر الأشكال المتاحة والممكنة ومنها التظاهر، حيث تصدت النخبة السياسية في حينها لـ بن غوريون وفرضت عليه ما كان يكره القيام به، من قبول على مضض لبقاء العرب داخل «دولة إسرائيل» مقابل إظهار صورة مغايرة لها أمام الغرب، تقول بأنها دولة ديمقراطية، وحتى لا تنفجر على طريق الدولة الناشئة ألغام أخرى هي بغنى عنها، خاصة مع حالة الرفض العربي والإقليمي لإقامتها، وحيث ما كان بمقدورها بعد إعلان إنشائها، أن تظهر بعد عقد اتفاقيات الهدنة وبعد أن وضعت حرب 48 أوزارها، التي برر بها قادة العصابات الصهيونية حينها إقامة المجازر للعرب الفلسطينيين بهدف تهجيرهم من وطنهم. وعلى مدار العقود السبعة الماضية، تواصلت سياسة إسرائيل الرسمية في محاولة لتبديد الهوية القومية للعرب من مواطني الدولة، لكن صمودهم أفشل كل تلك السياسة، خاصة وأن تلك السياسة اعتمدت على التفريق بين مكونات المجتمع العربي، بين مسلمين ومسيحيين، عرب ودروز، بدو وحضر، وفي المقابل، كانت حكومات إسرائيل تتبع سياسة مغايرة تجاه اليهود من مواطني الدولة ذوي الأصول المتعددة من سفرديم واشكناز، واعتماد سياسة العصا والجزرة، من خلال التحكم بالخدمات البلدية والمحلية.
وسعت إسرائيل أيضا إلى اتباع سياسة توزيع المجتمع العربي على «كانتونات داخلية» حتى تفقده القدرة على المقاومة وتذويبه في المجتمع الإسرائيلي، لكن الجذر العنصري في العقلية السائدة نفسها والذي ظل ينظر إلى ما هو غير يهودي على أنه مجتمع عدو، ظل يحمل نقيضه في داخله، وبذلك كان أحد عوامل بقاء العرب كمجتمع موحد داخل دولة تنظر إليه على أنه غير مرغوب فيه، في أحسن الأحوال.
وفي الحقيقة فإن حدة النظرة العنصرية تجاه العرب داخل إسرائيل كانت تتباين من حزب لآخر، وبين حزب معارض وآخر يتولى زمام الحكم، وما بين يسار ويمين، يسار جذري ويسار تقليدي، ويمين ليبرالي ويمين متطرف، لذا فقد «تدرج» الحضور السياسي للعرب من الانخراط في الأحزاب الصهيونية إلى التفرد في أحزاب عربية خالصة.
ولعل نظرة تستعرض التمثيل العربي في الكنيست الإسرائيلي، تظهر هذه الصيرورة، لكن يبقى السؤال حتى اللحظة هو كيف لنظام ديمقراطي يعتمد الدائرة الانتخابية الواحدة، لا يعكس في البرلمان حجم العرب الذين يشكلون 18% من السكان، في حين أن تمثيلهم النيابي لم يتعد بعد توحدهم جميعا في قائمة واحدة الثلاثة عشر مقعدا، في حين أن نسبتهم من السكان تعني منحهم نحو عشرين مقعدا، طبعا لذلك أسباب منها أن نسبة الشباب من هم دون الثمانية عشر عاماً في الوسط العربي أعلى من نسبة الشباب في الوسط اليهودي، لكن ما يكشف جوهر التمييز العنصري السياسي تكمن في أن العرب اقتصرت مشاركتهم في المؤسسة السياسية على البرلمان ولم يشاركوا في الحكومات المتعاقبة.
المهم أن التمييز العنصري ما زال متواصلاً، بل قد تزايدت حدته منذ وصول اليمين إلى الحكم قبل أربعة عقود، وصولاً إلى إقرار قانون القومية، والى أن حدة التمييز قد مست حتى قطاعات من اليهود أنفسهم، بعد توغل اللاهوت ممثلا بالأحزاب الحريدية واليمين المتطرف، في حكومات بنيامين نتنياهو الأخيرة، وما يحدث مع الفلاشا على سبيل المثال خير دليل على حقيقة النظام العنصري الإسرائيلي التي تظهر بشكل أكثر سفوراً مع مرور الوقت.
في الانتخابات الأخيرة، برزت ظاهرة العنف في المجتمع العربي في إسرائيل إلى الواجهة، وكانت أحد أهم شعارات القائمة المشتركة، بل أحد العوامل التي دفعت مكوناتها إلى التوحد، لمواجهة السياسة الرسمية التي تغذي وتشجع هذه الظاهرة، من خلال تراخي الشرطة الإسرائيلية وغضها النظر عن ملاحقة مرتكبي جرائم القتل، كذلك عدم محاربة تجار السلاح، حيث أن كل تلك الجرائم إنما هي جرائم قتل، تتم باستعمال السلاح الناري غير المرخص والذي يتم الحصول عليه من تجار السلاح الإسرائيليين.
وحقيقة الأمر أن إسرائيل كانت تتبع هذه السياسة حين كانت تحتل قطاع غزة، حيث كانت تشجع جرائم القتل داخل المجتمع الغزي، وتشجع انتشار المخدرات، كذلك إفساد الشباب الذي كان يعمل نهارا وراء الخط الأخضر، ويبدد أمواله ليلا في دور اللهو، بهدف إبعاده عن الاهتمام بقضيته الوطنية.
التقارير تشير إلى أن جرائم القتل التي تحدث المجتمع العربي بإسرائيل هي سبعة أضعاف ما يحدث داخل المجتمع اليهودي، وهذا دليل فاقع على أن التمييز هو السبب، لذا عاد العرب الفلسطينيون من مواطني دولة إسرائيل للتظاهر مجددا ضد عنصرية دولة ترى فيهم مجتمعا عدوا، وإن كان الأمر كذلك فلابد أن ينتهي الأمر بأن يطالب ذلك المجتمع بحكم ذاتي، ليشكل سلطته التي تقوم بحمايته ما دامت الدولة تعجز أو لا تريد أن تقوم هي بتوفير الحماية والأمن والاستقرار له، وهذا جزء من كفاح مركب ضد جوهر المشكلة التي تكمن في طبيعة دولة إسرائيل كونها دولة احتلال وتمييز عرقي، والمشكلة ليست لا في الفلسطينيين هنا ولا الفلسطينيين هناك، ولا في العرب ولا في الإقليم، بل في دولة إن أرادت أن يقبل بها الآخرون فعليها أن تغير من طبيعتها للتوافق هي مع محيطها وليس العكس.
جريدة الأيام الفلسطينية