ريم عبد المجيد
تشهد فنزويلا مجموعة من الأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية ومؤسسية كبيرة، يحول دون حلها الصراع المؤسسي بين سلطات الدولة التي لا تعترف أي منها بشرعية الأخرى، فالسلطة التنفيذية لا تعترف بالسلطة التشريعية والعكس صحيح. وقد تطور هذا الوضع منذ الانتخابات البرلمانية في عام 2015، حيث أصبح أكثر استقطابًا وتطرفًا ووصل إلى ذروته في الآونة الأخيرة عندما أعلن خوان غايدو نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد. فأصبح يوجد الآن رئيس يتمتع بالسيطرة على معظم مؤسسات البلاد بمساعده حلفائه، نيكولاس مادورو، ورئيس منافس، غايدو، الذي يحظى بدعم عدد من الجهات الدولية الفاعلة والقطاعات الهامة في المجتمع المدني.
هذا الاستقطاب الشديد الذي تشهده فنزويلا هو نتاج مجتمع منقسم بشدة، حيث إن كلا من الرئيسين يحظى بدعم قطاعات كبيرة من السكان عكس ما يروج له الغرب بوجود إجماع ساحق ضد مادورو في المجتمع الفنزويلي. فيوجد معسكر ضد مادورو والذي لم يعد يقتصر على النخبة في البلاد بعد سنوات عديدة كانت فيها المعارضة تتشكل بالكامل من النخب أو الطبقة الوسطى العليا، لكنها الآن أصبحت تشمل قطاعات أكثر شعبية في المجتمع. وبالمثل يوجد معسكر قوى لشافيستا المخلص الآن لمادورو، والذي يعادي غايدو وبشكل أعم المعارضة الفنزويلية. ساهم في زيادة الاستقطاب ليس فقط الانقسام الداخلي للمجتمع ولكن أيضًا الانقسام الدولي لمعسكرين، معسكر غربي يشمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يدعم المعارضة وخوان غايدو ويهدف إلى إسقاط نظام مادورو، ومعسكر شرقي يشمل روسيا الداعمة لمادورو والتي ترى أن وجوده شرعي. هذا الانقسام يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين ويوضح أنها لم تنتهي عكس ما ارتأى أغلب الساسة والمفكرين، ولكنها توقفت لحين استعادة روسيا لقوتها التي تمكنها من مواجهة القوى الغربية وإن كان بشكل غير مباشر عبر التدخل في دول العالم الثالث وجعلها ساحة للصراع معها بما يقلل من خسائرها التي ستتكبدها حال المواجهة المباشرة.
التدخلات الدولية في فنزويلا
في أعقاب إعلان غايدو، اعترفت الولايات المتحدة وكندا بفوزه وتابعت الدول الأوروبية بقولها إنها ستعترف به إذا لم يتم إجراء انتخابات جديدة في غضون ثمانية أيام عقب الإعلان، ومع تمسك مادورو بالسلطة بادرت الدول الغربية بفرض عقوبات دولية وعزلة دبلوماسية تحرم حكومة مادورو من الشرعية والموارد لكنهما لم يزيحاها من السلطة حتى الآن. فأخذت في سبيل زيادة الضغط السياسي والاقتصادي على مادورو وسائل عدة غير مباشرة مثل فرض عقوبات على الشركات الأجنبية التي تتعامل مع فنزويلا، ومباشرة مثل العمل ضمن مجموعة ليما لتوفير إطار قانوني لفرض عقوبات على النظام، ومن التهديد بالتدخل العسكري فيها إلى الترغيب من خلال عرض رفع العقوبات عن الأفراد الداعمين لحكومة مادورو.
وعلى الجانب الآخر قامت روسيا باتخاذ موقفًا مغايرًا حيث أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعمه لمادورو معتبرًا إياه الرئيس الشرعي وليس غايدو. وتنوع دعم روسيا بين الدعم الاقتصادي، حيث أعلن بوتين زيادة حجم التبادل التجاري، وزيادة الإمدادات الزراعية لفنزويلا، والدعم الإنساني حيث أعلنت عن اعتزامها إرسال معونات غذائية وأدوية للشعب الفنزويلي المتضرر من سوء الأوضاع في البلاد.
هذا التعارض الدولي بين روسيا من جهة والقوى الغربية من جهة أخرى في موقف كل منهما تجاه الأزمة الفنزويلية ينبع بالأساس من العلاقات بين موسكو والدول الغربية وكذلك في رؤية الرئيس الروسي للسياسة الخارجية الأصلية التي تعود إلى أيامه الأولى في منصبه، تحتوى هذه الرؤية على عدة عناصر منها استعادة مكانة روسيا كقوة عظمى على الساحة الدولية لديها القدرة على التأثير، وضمان الهيمنة الروسية في الخارج القريب، واستبدال نظام دولي متعدد الأقطاب بنظام أحادي القطب تسيطر عليه الولايات المتحدة منذ التسعينات، وأيضًا منع الثورات الهادفة للإطاحة بالحكومات الشرعية وإن كانت فاسدة وغير ديمقراطية، بجانب تقويض المصالح الأمريكية حيثما أمكن ذلك واستعمال القضايا المشتركة مثل أزمة فنزويلا لدعم دور روسيا كحكم للأمن الأولي. وتقويض النظام الدولي الليبرالي الذي يقيد سعي موسكو لتحقيق مصالحها. جملة هذه العوامل تفسر دعم روسيا للنظام اليساري في كاراكاس رغم الموقف الدولي شبه المتوافق حول ضرورة إسقاطه.
مصير الأزمة في ظل التدخلات
على الرغم من الوضع المعقد الذي تشهده فنزويلا إلا أن هناك عدة سيناريوهات محتملة يمكن أن تشهدها، سيكون لكل منها تداعيات على الأطراف الدولية المتدخلة في الشأن الفنزويلي، والتي من غير المرجح أن تقف مكتوفة الأيدي حال وقوع أيًا من تلك السيناريوهات.
السيناريو الأول-الجمود المستمر مع استمرار القمع من جانب مادورو
يتمثل هذا السيناريو في استمرار الوضع الراهن كما هو عليه، صحيح أن حكومة غايدو تلق دعمًا دوليًا لكنها ما تزال غير قادرة على الإطاحة بنظام مادورو. فمن المرجح في تلك الحالة استمرار الاحتجاجات –والتي لا تشكل أي تهديد لنظام مادورو حتى الآن-وكذلك مواصلة النظام قمعه الذي من المحتمل أن يصبح أكثر عنفًا عبر تعرض ممثلو الجمعية الوطنية للاضطهاد بشكل متزايد على سبيل المثال، وهو ما يُفقد المعارضة بعض من قدرتها على التنظيم داخل فنزويلا ويجعل قادة الحكومة المؤقتة في شتات. في حال تحقق ذلك السيناريو، ستشدد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي العقوبات على نظام مادورو، وكذلك الدول التي يتآمر معها، كما يمكن للمجتمع الدولي أن يمنع ناقلات النفط ومهربي المخدرات من مغادرة الدولة بالتعاون من دول الجوار لفنزويلا، بجانب مصادرة أصول مسؤولي النظام في دولهم، وهو ما يساعد على إزالة المصادر التي تبقي النظام صامدًا حتى الآن. أما عن روسيا التي ترى في دعمها لمادورو وسيلة منخفضة التكلفة لبث عدم الاستقرار في نصف الكرة الأميركي، فمن المتوقع أن تواصل عمليات النشر العسكرية العرضية في فنزويلا، وأن تستمر في مساعدة نظام مادورو على التهرب من العقوبات والسماح له الصمود أمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة، والمعارضة في الداخل من جهة أخرى.
السيناريو الثاني-فراغ السلطة
قد يترك مادورو منصبه تاركًا انقسامات بين خلفائه المحتملين بما يسبب فر اغًا في السلطة والذي ينتج عنه بالتبعية عدم مقدرة أي أحد –الحكومة، غايدو، الشرطة، الجيش-على السيطرة على البلد بأكمله. هذا الوضع يهيئ الظروف للقوات المسلحة غير النظامية للسيطرة على بعض المناطق، مع احتمال شنها هجمات إرهابية وبخاصة المجموعات البوليفارية التي تنفذ أوامر مادورو وتدعمه بما يجعلها ذراعه الإرهابي في الدولة –مثلما حدث في كولومبيا في الماضي-بما يجعل فنزويلا مكانًا ملائمًا لشبكات الإرهاب الدولية. بجانب ذلك، سيسهل نمو التجارة غير القانونية دون رقابة. ويساهم في تفاقم خطورة هذا الوضع تركيز القوات المسلحة الداعمة للحكومة المؤقتة على توفير الحماية فقط للأصول الحكومية الهامة وترك بقية البلاد تقع في حالة من الفوضى المتزايدة بما يحول قوات الأمن إلى فرق صغيرة تكافح من أجل البقاء اليومي.
في حالة فراغ السلطة يمكن لدول الجوار لفنزويلا وللحكومة المؤقتة أن تطلب من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعم إعادة بناء النظام وطلب مستشارين أمريكيين لتحقيق ذلك. كما يمكن تنظيم قوة متعددة الأطراف من خلال مجموعة ليما –تطبيقًا لمعاهدة البلدان الأمريكية للمساعدة التبادلية، أو معاهدة ريو التي طًلب من حكومة غايدو في تموز 2019 الانضمام مجددًا إليها، والتي تنص على أن الهجوم على بلد عضو واحد هو هجوم على جميع الأعضاء. وقد تطلب الحكومة المؤقتة أيضًا من الأمم المتحدة إرسال قوات حفظ السلام لمواجهة جماعات مادورو. أما المجتمع الدولي فيمكن في ظل هذا السيناريو أن يستجيب بإرسال مساعدات إنسانية إلى فنزويلا. فيما يتعلق بروسيا، فسيزيد بوتين من خاطبه عن الفوضى التي سببها الغرب في فنزويلا ولكن من غير المرجح أن تتدخل موسكو مباشرة بدعم عسكري كبير لمادورو حال تدخل الولايات المتحدة عسكريًا للمساعدة في استعادة النظام.
السيناريو الثالث-حدوث انشقاقات داخل نظام مادورو
إن قوة مادورو الحقيقة لا تكمن في شخصه، فهو ليس رجلًا قويًا محكمًا قبضته على الحكومة بأكملها وأجهزة الأمن. فقوته تنبع بنحو أساس من المسؤولين في نظامه، ديوسدادو كابيلو، رئيس الجمعية الوطنية التأسيسية أكثر نفوذًا في الكثير من الدوائر، كما يتحكم فلاديمير بادرينو لوبيز وزير الدفاع في الكثير من المؤسسات التجارية مثل بنك القوات المسلحة البوليفارية الوطنية ونظام الاتصالات للقوات المسلحة البوليفارية الوطنية والاستثمار. هؤلاء الرجال وغيرهم من المسؤولين رفيعي المستوى مخلصون ليس لمادورو بل للنظام الذي يفيدهم ويخدم مصالحهم الذاتية، وهذا قد يدفع أحدهم أو مجموعة منهم لإسقاط مادورو والسيطرة على القصر الرئاسي وتولي زمام الأمور وأخذ مقاربة أكثر ليونة مع المعارضة والحكومة الانتقالية عن طريق إجراء انتخابات على سبيل المثال، بما يعيد الأوضاع لسيرتها الأولى التي تحفظ مصالحهم. سقوط نظام مادورو سيكون له مردود إيجابي في جميع أنحاء المجتمع الدولي باعتباره خطوة أساسية نحو استعادة الديمقراطية حيث سيسعى الزعيم التالي بسرعة إلى تخفيف موقفه بشأن بعض القضايا المثيرة للخلاف بهدف إزالة العقوبات الدولية، ومن المتوقع أن يلقى ذلك استجابة من بعض الدول أو التحالفات وبخاصة الاتحاد الأوروبي الذي سيسرع من عملية رفع العقوبات كخطوة لإرساء الديمقراطية. أما روسيا فستسعى إلى الحفاظ على نفوذها داخل فنزويلا من أجل ضمان سداد قروضها وحماية أصولها، لذا ستبذل قصارى جهدها لإظهار دعمها للحكومة الجديدة حيث سيكون من الأهمية بمكان ضمان استمرار موطئ قدم في موقع استراتيجي كموقع فنزويلا.
السيناريو الرابع- التوصل لحل تفاوضي مع مادورو
قد تثمر المفاوضات عن اتفاق يوافق بموجبه نظام مادورو على إجراء انتخابات حرة ونزيهة بمراقبة دولية. ولكن تحقق هذا السيناريو يعيقه أن أحد المطالب الرئيسية لكاراكاس أن ترفع الدول بعض العقوبات قبل الانتخابات، ومن غير المرجح أن تقدم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على مثل هذا الإجراء الوقائي. وبرغم ذلك سيكون هذا الحل التفاوضي بمنزلة فوز كبير لمجموعة ليما والمجتمع الدولي وللحفاظ عليه يجب وضع آليات على الفور لضمان مراقبة الانتخابات وتحقق نزاهتها من خلال منظمة الدول الأميركية والأمم المتحدة ومنظمات مراقبة الانتخابات الفردية، بجانب تقديم مساعدات إنسانية. أما عن روسيا، فإذا كان هناك اتفاق يحظى بقبول مادورو ومؤيديه فمن المرجح أن تدعمه روسيا كذلك إذا كان مقترنًا بوجود ضمانات قانونية لحماية الأصول والديون الروسية بعد الانتخابات، ولكن في مقابل موافقتها على الاتفاقية من المرجح أن تطلب تنازلات في مناطق أخرى أكثر استراتيجية في العالم.
المركز العربي للبحوث والدراسات