كافي بعد.. ملينه

هي احدى الصرخات المعبرة والصادقة التي اطلقها احد المحتجين الشباب، لتعكس بوضوح وكثافة لا مثيل لها؛ ما تختلج به روح هذه الشريحة من الشباب العاطل عن العمل واليائس من وعود وشعارات الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور عراق ما بعد “التغيير”. مثل هذه الصرخات العادلة والمشروعة تحتاج الى الكثير من اليقظة والحذر كي لا تقع في شرك من ينتظر بفارغ الصبر ليقطف ثمار ذلك الغضب المشروع وما يرافقه من ايثار وتضحيات. مثل هذه الاوجاع البعيدة عن الاستعراضات والاجندات المشبوهة وتصفية الحسابات السياسية والتاريخية، تعد بداية واعدة لتحقيق احد اكثر الشعارات واقعية “نازل آخذ حقي”. بداية بمقدورها شق الطريق صوب استرداد الحقوق المهدورة؛ ان عضدت بسلسلة من الخطوات، التي تنقلها من العفوية والعشوائية وخطر الاحتواء من قبل حيتان الفساد والاجرام وشبكاته الاخطبوطية وواجهاته المتعددة، لتشق لها سبيلا آخر يعزز استقلالها ومصداقيتها وغاياتها المشروعة. من يقف خلف تلك الصرخات والهتافات الواقعية لا يمكن لهم ان يمارسوا عمليات الحرق والتخريب وكل ما يمكنه الاساءة لهذا النشاطات والحقوق التي يتضمنها دستور العراق الجديد. ان دفع الاحتجاجات الى تلك المسارب الخطرة، لا يجردها من مكمن قوتها (سلميتها) وحسب بل تتيح لمن اهدر حقوقهم وفرط بها، من استغلال ذلك لاجهاض واحتواء تلك الاحتجاجات ومنعها من التقدم الى ما بعد صرختهم الواعدة “كافي بعد ملينه”.

كما انها تعكس ما هو مسكوت عنه فيما تعيشه هذه الشريحة الواسعة والاكثر ديناميكية وتطلعاً في المجتمعات والامم؛ الا وهو ارث المرحلة التوتاليتارية التي سحقت كل ما له علاقة بقوة العراقيين  وحيويتهم أي تنوعهم الثقافي وتعدديتهم السياسية والتنظيمية، حيث وجدت شبيتنا نفسها بلا حول ولا قوة، مع مثل ذلك الطفح من اشباه الاحزاب وحطام التنظيمات (أكثر من 200 كيان)  كشفت التجربة عن عقمها وفشلها في تحقيق أبسط متطلبات خدمة الشأن العام، والتي تمثل الوظيفة الاساس لوجودها ونشاطها. لذلك كان شعار (الشعب يريد اسقاط الاحزاب) حكيماً وواعيا ومعبراً عما راكمته تجربتهم الفتية مع كتل حقبة الفتح الديمقراطي المبين.

على هذه الشريحة وممثليها الاكثر حنكة ووعياً، ان يحذروا من الخطاب والضخ الاعلامي ذو الاجندات المعروفة، والذي يصور لهم عدم وجود قيادات معروفة، وقائمة مطالب واضحة لهذا الحراك بوصفه مصدر قوة لهم، وان قوة الاحتجاجات تكمن في عفويتها، وهم بذلك يراهنون على ديمومة عفويتكم مقابل قوى مشاركة بعيدة كل البعد عن العفوية والطرح والممارسات، كما كشفت عن ذلك الاحداث اللاحقة. مع اختلاف التجربة والتحديات الملقاة على عاتق العراقيين الاحرار ولا سيما منهم شريحة الشباب، وتجارب البلدان الاخرى كتجربة السودانيين الاخيرة وتظاهراتهم التي مهدت لزوال أحد أكثر الانظمة استبدادا وتخلفاً، لكنها كشفت عن أهمية وضرورة توفر مستلزمات وشروط نجاح هذا النشاط الوطني والحضاري المجرب؛ وعلى رأس ذلك القيادة المتزنة والواعية لاوليات مثل هذه المواجهات. وقد كشفت احداث الايام الاخيرة عن مخاطر الضخ الديماغوجي والذي حاول بكل ما يمتلك من امكانات ومكر ودهاء وموهبة في نبش الثارات الصدئة، كي يدفع بالاحداث الى مسارب تقوض كل ما تهدهده عقول وضمائر هذه الشريحة التي يقع على عاتقها القسط الاكبر من مهمات تقويم مسار ولادة العراق الديمقراطي..

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة