فيلم إيدا

بالأسود والأبيض باول  باوليكوفيسكي ، ينجح في تقديم سينما كلاسيكية راقية

كاظم مرشد السلوم

يعود المخرج البولندي باول باوليكوفيسكي صاحب فيلم « موسم حبي الصيفي « الى تقاليد السينما الكلاسيكية ، سينما أوربا الشرقية ليقدم تحفة سينمائية راقية ، مستعينا باللونين الأسود والأبيض لتأكيد عمق الدلالة . من خلال فيلمه « إيـــــــــــدا «

بولندا عام 1962 مازالت تضمد جراح الحرب العالمية الثانية ، اثار هذه الحرب بادية على الوجوه وعلى اسلوب الحياة من خلال رتابة واضحة ، حرب لا تمحى اثارها بسهولة ، حتى لو اختفت تلك الاثار من الشوارع والبنايات .

باوليكوفيسكي يصوغ ميلودراما شيقة حول الهوية التي بعثرتها الحرب والبحث عنها  وإمكانية استردداها . .

قوة الصدمة بعد معرفة حقيقة هويتك الاولى ، كيف يمكن امتصاصها ، كيف يمكن التعامل مع رد الفعل الناتج عنها  ، كيف يمكن لكم التعاسة الناتج عن ذلك ان يفقد المرء اتزانه ، وما مدى ارتهان الشجاعة بها ؟ تلك هي اسئلة الفيلم الأهم .

 يبدأ  باوليكوفيسكي مشهده الافتتاحي ، من دير مسيحي ،حيث الشابة  « أنا « أدت دورها ببراعة الممثلة « اغاتا تشيبو خوفيسكا « تعتني بتمثال ليسوع ، حيث ترعرعت هنا ، وتحاول التخلي عن كل ماهو دنيوي لصالح عملها الديني ، وفي موعد الترشيح النهائي لمن ستبقى في الدير وترفع درجة دينية ،والحصول على درجة الرهبنة ، تفاجأ بطلب من مديرة الدير ان تذهب خارج الدير لتقابل خالتها ، الوحيدة المتبقية من عائلتها ,التي تعرف تاريخها الشخصي وتاريخ ومصير عائلتها ، هذا اللقاء سيقلب حياتها راسا على عقب ، بعد معرفتها انها ليست من عائلة مسيحية بل من عائلة يهودية ، قتل كل افرادها خلال الحرب العالمية الثانية باستثناء خالتها ،  وتعرف كيف تلاحق خيط الاحداث الماضية وكذلك الاشخاص الذين ساهموا في قتل العائلة ، والذين دفنوا جثثها .

الخالة « فندا « أدت دورها بتميز الممثلة « آجاتا كوليشا « تعيش حياة ماجنة ، فهي غير متدينة ، وتعيش حياتها كما يحلو لها ، لكن ظهور « أنا « في حياتها يدفعها لنبش تاريخ عائلتها واعادة الاعتبار لهم ، ولو بدفن رفاتهم بشكل لائق على الاقل ، بعد ان دفنوا بشكل عشوائي . 

حياة الخالة « فندا « تثير اهتمام « ايدا « وهو اسمها اليهودي وتتعرف في احد المراقص التي ترتادها خالتها على شاب يحرص على اقامة علاقة بها ، لكن حياة الدير والتمسك الديني يمنعها من ذلك .

من خلال رحلة البحث عن رفات الاهل ، تنظر أيدا الى الحياة نظرة جديدة ، تعرف مدى الحيف الذي لحق باهلها وبها ، مجون الخالة وعدم اهتمامها بما هو اخلاقي ناتج عن الحرب ايضا .

رحلة البحث في مزارع بولندا ، يوظفها بول باوليكوفسكي لتضفي جو من الحزن والكآبة حيث لا يوفر اللونان الاسود والابيض اي متعة جمالية ، بل يسهمان في اضفاء جو الكآبة على المكان ، الوجوه شمعية ، لاوجود للأمل فيها ، حيث اثار الحرب مازالت بادية عليها . تلك الحرب التي لم يمضي الكثير على نهايتها ، والبلاد خرجت من الحرب لتخضع لنظام شيوعي صارم .

الحوار مقتصد وعميق وذو دلالة ، الموسيقى تنساب لترفع وتيرة الحزن واضفاء جو الكآبة ، لكنه الحزن والكآبة التي تستمر بمتابعتها وتتمتع بها لأخر لحظة ، وهو امر يؤكد براعة صانع الفيلم  باوليكوفسكي ،

بعد العثور على رفات اهلها ، يبقى السؤال وماذا بعد ؟ اين يمكن ان تذهب ايدا بعد ان تعرفت على الحياة خارج الدير ، هل يمكن ان تتناغم مع هذه الحياة ، هل ستعود الى الدير المسيحي بعد ان تأكدت انها يهودية ، هل يمكن ان تعيش حياة مشابهة لحياة خالتها فندا ، كذلك ماذا ستفعل فندا بعد انتهاء ما اعتبرته مهمة يجب ان تنهيها ؟ هل ستسمر بحياة لا هدف لها ، هل ستبقى تستدرج الرجال الى شقتها ليؤنسوا وحدتها ؟

الخالة تجيب على السؤال بشكل سريع ، وبمشهد اشتغله باوليكوفيسكي ببارعة ، فندا تتحرك ذهابا وايابا في الشقة ، النافذة مفتوحة ، وبشكل مفاجىء ترمي بنفسها من النافذة ، لتنهي حياة لا قيمة لها حسب اعتقادها ، وربما كانت الحرب والاضطهاد الناتج عنها هي التي افقدتها تلك القيمة .

آيدا ، تحاول ان تعيش حياة خالتها فتواعد الشاب الذب تعرفت اليه ، وتنام معه ، لكن هذا ليس قرارا قاطعا ، لذلك تقرر العودة الى الدير المسيحي ، قابلة بوضعها فيه وهي اليهودية التي دفنت رفات عائلتها للتو . معتبرة ان ثوابت قناعاتها ليست اقل شأنا من هويتها . وترفض في الاخر أداء قسم الرهبنة ، كونها غير مكتملة الطهارة .

ربما تكون الخلفية الفكرية والفلسفية للمخرج باول باوليكوفسكي هي ما يفسر رهاناته الجمالية، إيقاعا وحوارا وفضاء، كل شيء محسوب بدقة متناهية لازوائد و لاحشو في السرد الصوري ، وهو ما يؤشر التعامل الفاعل مع عناصر اللغة السينمائية .

يقول مخرج الفيلم باول باوليكوقيسكي «» إنه سعى من خلال قصة الفيلم إلى طرح سؤال الوجود الإنساني، والعوامل الفاعل فيه، كالدين والتاريخ والهوية، ذلك من خلال استدعاء فترة زمنية من تاريخ بولندا كان يرزح خلالها هذا البلد (الموطن الأصلي للمخرج) في ظل الحكم الشيوعي «»

ويقول ايضا  « بأن الناس لديهم شكوك بشأن هذا الفيلم الأبيض والأسود، والذي جرى تصويره بكاميرا ثابتة ويشارك فيه ممثلون غير معروفين خارج بولندا» .

وأوضح أن البعض قالوا إنه ربما كان أمر أشبه بالانتحار المهني على الطريقة اليابانية هارا كيري ، لكن هذه لا تبدو هي الحالة، ولذا فإنني أشعر بالفعل بارتياح .

الفيلم عرض في مهرجان ابو ظبي السينمائي السابع ونال استحسان الجمهور ونقاد السينما . ولد باول باوليكوفيسكي سنة 1957 بمدينة وارسو (بولونيا)، ورحل عن بلده وهو في سن الرابعة عشر للعيش بين لندن وألمانيا وإيطاليا، قبل أن يستقر به المقام بالمملكة المتحدة. بعد دراسة الأدب والفلسفة، بدأ مشواره المهني بإخراج أفلام وثائقية للقناة التلفزية «بي.بي.سي». حصل على جائزة الأكاديمية البريطانية لفنون الأفلام والتلفزيون كأفضل مخرج بريطاني شاب سنة 2001 عن ثاني أفلامه، «الملاذ الأخير»، وجائزة الأكاديمية البريطانية لفنون الأفلام والتلفزيون لأفضل فيلم بريطاني لسنة 2005 عن فيلمه الثالث «موسمي الصيفي للحب».

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة