أشرف الحساني
للفن التشكيلي المغربي أسماء كبيرة صنعت مجد ماضيه الجمالي، تجارب مختلفة استطاعت أن تخط لها مسارا جماليا متميزا عبر مراهنتها على المغايرة والاختلاف، سواء تعلق الأمر بالموضوع أو بالمادة أو حتى بالأسلوب الفني، الذي يميز الفنان عن غيره من الفنانين حتى ولو اشتغلوا على ثيمة واحدة. فدائما نجد أن الأسلوب وطريقة مزج الألوان وتركيباتها على جسد اللوحة هي التي تعطي لصاحبها تميزا عن غيره، ولو تشابهت العوالم الفنية التي يشتغلون عليها معا.
وقد لعب السياق التاريخي السياسي والأيديولوجي، الذي شهده المغرب في الستينيات والسبعينيات، باعتباره مختبرا للحداثة الفنية، دورا كبيرا في إرساء دعائم هذه الحداثة الفنية من خلال النقاشات المحمومة، التي كانت تنضح بها الجرائد المغربية خاصة اليسارية منها، حيال إمكانية التخلص من تاريخ الغرب الفني ومحاولة اجتراح مشاريع فنية، تنطلق من الخصوصية المحلية، فكان الخط العربي، بما يمثله من هوية عربية آنذاك، أحد هذه الملاذات الجمالية، التي احتمت فيها بعض الأسماء المغربية من أعاصير الموجات الفنية، التي كانت تشهدها أوروبا آنذاك، لكن مع ذلك استطاع جيل السبعينيات أن ينفرد بخصوصية فنية تتجاوز الخط العربي وأشكاله المتموجة، من خلال العمل على صياغات وتوليفات جديدة مغايرة للفن الغربي
«كان الخط العربي، منذ ستينيات القرن الماضي، بما يمثله من هوية عربية آنذاك، أحد هذه الملاذات الجمالية، التي احتمت فيها بعض الأسماء المغربية من أعاصير الموجات الفنية، التي كانت تشهدها أوروبا آنذاك» كالتجريدية الغنائية مع الجيلالي الغرباوي ومفهوم التراث والهوية مع كل من فريد بلكاهية وأحمد الشرقاوي والغرائبية ذات البعد الأنثروبولوجي مع عباس الصلادي ثم السفر في مجاهل وتخوم المادة مع فؤاد بلامين.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الجيل، بل إننا نجد أنفسنا مع جيل الثمانينيات وقد كسر عصا الطاعة كما يقال، من خلال انفتاحه على موضوعات فنية ومفاهيم جمالية متجاوزاً البعد الأيديولوجي، الذي ظلت تنضح به بعض الأعمال الفنية السبعينية محاولاً إعطاء قيمة أكثر لمفهوم الجسد في علاقته بالتحولات، التي طالت المجتمع المغربي آنذاك والمنسل من تلك المرحلة، بوصفها مختبرا للحداثة السياسية والثقافية، وما رافقها من نقاشات حول إمكانية التخلص من سلطة الغرب والتعلق بالتراث المغربي من خلال إعادة طرح سؤال الذات المبدعة في بعدها الحضاري، وهو الأمر الذي دفع بعض الفنانين كفريد بلكاهية وأحمد الشرقاوي ومحمد شبعة إلى إعادة «مسح الطاولة» لجميع المفاهيم الجمالية بغية صياغة تفكير جديد للعمل الفني المغربي، انطلاقا من الصباغة والإطار والسند والألوان والعلامات والرموز ذات الطابع العربي والأفريقي، وهي خطوة ناجعة كان الغرض منها جماليا إرساء دعائم الحداثة والتحديث بخصوصية مغربية دون إحداث قطيعة إبستمولوجية مع الآخر وتراثه الفني والجمالي، الذي تشكل عبر قرون. لذلك تم داخل أعمال بلكاهية مثلا استبدال القماش المشدود والصباغة الزيتية بإطار خشبي كسند فني جديد، وهي محاولة ذكية تمتح ماهيتها وطريقة تشكلها من الصناعة التقليدية، التي ظل بلكاهية مهووسا بها، فضلا عن استعماله لبعض المواد كالحناء والجلد والنحاس وبعض الأدوات المنزلية، التي يستعملها الإنسان الشعبي المغربي.
يقول الفنان التشكيلي محمد شبعة بهذا الصدد «بالنسبة لنا فإن ربطنا بالموروث الثقافي والفني ليس شعارا لتخليص الضمير من عقدة الاستلاب الغربي، بل هي مسألة أساسية تدخل في مشروع ثقافة الشعب بكل ما تحمله من علاقات جدلية بين عناصرها المعقدة، وتصارع تلك العناصر، بعضها يجر إلى الماضي والآخر إلى المستقبل. مع العلم أن جزءا كبيرا من موروثنا يجثم على صدر الشعب عبئا ثقيلا يشده إلى التخلف والفقر والخنوع، وبدون القضاء على هذا الجانب المظلم من (أصالتنا) لن يتمكن الشعب من تحقيق مشروع ثقافته التحررية».
معرض التعدّد والاختلاف
معرض «مرآة جماعية» (Miroir collectif) المقام بمدينة الرباط ما بين 20 حزيران/يونيو إلى الفاتح من أيلول/سبتمبر القادم، بتنظيم من مؤسسة متحف بنك المغرب، هو معرض جماعي تشارك فيه جملة من الأسماء الفنية، التي طبعت التشكيل المغربي المعاصر بالكثير من الجرأة الفنية والاحترافية العالية المطبوعة بهاجس المغايرة والاختلاف، من خلال المزج بين
«هذه التجارب تؤكد المكانة التي يحتلها المغرب فنياً داخل البحر الأبيض المتوسط. فهذا التعدد والاختلاف، الذي يطبع مساره اليوم، يرجع بالأساس إلى كون المغرب ظل موطناً آسراً من لدن الآخر، فتعاقبت عليه الكثير من الحضارات كالفينيقية والرومانية والوندالية والبيزنطية وغيرها من الحضارات»
تجارب قديمة وأخرى جديد، نذكر منها: مريم أبو زيد سواعلي، أمينة أكزناي، مصطفى أكريم، محمد أرجدال، فريد بلكاهية، فؤاد بلامين، حسن بورقية، محمد شبعة، أحمد الشرقاوي، أمين القطيبي، منير الفاطمي، الجيلالي الغرباوي، محمد القاسمي، محمد مليحي، خليل النماوي، وعبد العزيز زرو.
إنها تجارب تحتفي بشرودها وتنوعها داخل كارطوغرافية التشكيل المغربي، تجارب تؤكد المكانة التي يحتلها المغرب فنيا داخل البحر الأبيض المتوسط. فهذا التعدد والاختلاف، الذي يطبع مساره اليوم، يرجع بالأساس إلى كون المغرب ظل موطنا آسرا من لدن الآخر، فتعاقبت عليه الكثير من الحضارات كالفينيقية والرومانية والوندالية والبيزنطية وغيرها من الحضارات، وذلك بسبب موقعه الاستراتيجي المهم داخل البلاد الأفريقية، فهو يحرس البحر الأبيض المتوسط من الغرب ومصر من الشرق، وقربه وجواره من أوروبا جعلاه يتبوأ مكانة مائزة في مخيال هذه الحضارات التاريخية، التي أضفت عليه سحرا مركبا وخليطا متمازجا بين هذه الحضارات، التي ترسبت في بنية التفكير والمتخيل الإبداعي المغربي فكرا ومادة وشكلا، فأتاحت له إمكانية أن يحوز لنفسه ثقافة فنية مختلفة يصعب معها الإقرار تاريخيا باستقلاليتها، لكنها جعلت منه فنا رفيعا داخل جغرافيات الفن التشكيلي المغاربي، بخصوصية محلية تقوم في أساسها على التنوع والاختلاف وليس التحجر والتقوقع داخل موطن تنعدم فيه الحدود التعبيرية. إنه بطريقة تجعله يتماهى مع هسيس هذه الحضارات وهي تدب في جسده بشكل تتماهى معه وتجعله فنا ذا بعد كوني يخترق الحدود الجغرافية والدينية والعرقية ويقيم في مواطن جمالية أخرى. إنه بطريقة ما أشبه بما تحدث عنه عبد الكبير الخطيبي، أي كيف نقيم في الآخر دون أن ننتمي إليه، وهو الأمر الذي يتماشى مع جوهر هذا المعرض الجماعي الغني والعصي على النسيان في كونه ينهل من خزان كبير من التاريخ الفني والجمالي المغربي، خزان لا ينضب من الأشكال الهندسية المتماهية والمتموجة والعلامات والأقواس والأوشام والأجساد القلقة بفعل الحرب والزمن والمنفى وصولا إلى التجارب الفنية الأخرى، التي راهنت على تكسير الشكل والخروج من إسار اللوحة المسندية وما يمكن أن يفتحه ذلك من فضاءات بصرية ومواطن جديدة للتفكير في جوهر الفن المغربي المعاصر في علاقته بالفضاء، وذلك عبر جملة من الثيمات المركزية، التي شغلت لوحات المعرض كالهوية والذاكرة والتراث والأرض والالتزام وغيرها من المفاهيم، والتي تتماشى اليوم مع مخططات وأجندات الدولة والمؤسسات الثقافية، وهو أمر لا بدّ من العودة إليه لاحقاً.