لم تمر سوى أيام معدودات على تكليفه بتشكيل أول حكومة بعد الاطاحة بحكم عمر البشير، حتى أعلن السيد عبدالله حمدوك عن تشكيلتها والتي ضمت 18 وزيراً، بينهم أربع نساء ابرزهن وزيرة الخارجية أسماء محمد عبدالله. قد يبدو أمر هذه المشاركة للمرأة فيها مفاجئا لدى الكثير من الذهنيات التي نمت وترعرت داخل مضاربنا الفاطسة تحت نير القبلية وتغول الهيمنة الذكورية، لا سيما عندنا نحن العراقيون والذين مرت علينا اكثر من 16 عاماً على انخراطنا بماراثون ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية من دون أن تتجرأ آخر تشكيلة حكومية من ضم وزيرة يتيمة لها…؟! لكن من يعرف شيئا عما خطته المرأة السودانية في مشوار كفاح مجتمعها وشعوبها من أجل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، سيتفق تماماً والآراء التي تجد هذه النسبة غير منصفة لدورها ومكانتها الفعلية، وبنحو خاص في الانتفاضة الاخيرة التي هدت أحد أكثر الانظمة الاسلاموية عداء لحقوق المرأة وتطلعاتها المشروعة، حيث كان نظام الجبهة الاسلامية يمعن بتشريع القوانين المعادية لهن وتنفيذ عقوبات السجن والجلد، تحت ذريعة تطبيق الشريعة والحدود الاسلاموية التي عفا عليها الزمن.
هذه المرحلة الانتقالية من المقرر لها أن تستمر لـ 39 شهراً، تتصدر قائمة اولوياتها وفقاً لما اعلنه حمدوك مهمة وضع حد نهائي للحرب وبناء الاسس الراسخة لسلام وطيد، بعد ان عبثت السياسات المتطرفة والمغامرة للنظام المباد بوحدة وامن واستقرار السودان. كما تضمنت خطة الحكومة العديد من المحاور والاهداف الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية، الهادفة لتصفية ارث المرحلة السابقة ومخلفاتها الضارة، التي انحدرت بسلة غذاء افريقيا (السودان) الى مصاف البلدان الاكثر فقراً في افريقيا والعالم. لا أحد ينكر وجود عدد من الملاحظات والتي ابدتها بعض القوى والشخصيات السياسية على طبيعة التشكيلة الحكومية والشخصيات المشاركة فيها، غير ان ذلك لا ينفي كونها قد مثلت ما يمكن ان نعده بداية واعدة، بمقدورها قيادة هذه المرحلة الحساسة للانتقال بالسودان الى الحكم المدني ومؤسساته الحديثة والتي تشكل المجالس المنتخبة ركيزته الاساس. ان استرداد الكنداكة (لقب الملكات الحاكمات في الحضارة النوبية) لمكانتها ودورها وحقوقها، مؤشر لا يتناطح عليه كبشان على جدية التحولات في سودان ما بعد العسكرة والمغامرات العقائدية البائسة، وهذا ما ستستهدفه قوى الثورة المضادة في نشاطاتها المقبلة.
ان جدية التحولات السياسية والاجتماعية والقيمية، تكشف عن نفسها بوضوح تام في هذا الملف (مكانة المراة ودورها) وهذا ما يمكن التعرف عليه فيما تمخضت عنه تجربة عراق ما بعد “التغيير” حيث عجزت كوتا النساء وعبر عدة دورات انتخابية (اتحادية ومحلية) من تقديم اية مساهمة جادة لصالح قضايا النساء وحقوقهن المشروعة، بعد أن افرغت الكتل والجماعات المتنفذة هذا الكوتا من محتواه وغاياته الاساسية. لقد مثلت مساهمة المرأة السودانية وتصدرها للاحتجاجات السلمية، علامة فارقة مقارنة بما شهدته المنطقة من احتجاجات مماثلة، لا سيما عندما واجهن ببسالة رصاص جلاوزة جنرال الاخوان بهتافهن: (اقتلني… لا تنتهك حريتي). وهنا لابد من الاشارة الى ذلك الارث الذي حاولت قوى التخلف والاستبداد ابعاده عن متناول الاجيال الجديدة، الا وهو الدور الريادي للكنداكة في العديد من محطات السودان الحديث، وتوج اليوم بما نشاهده من خطوات ومشاريع تضع نصب عينيها معالجة ذلك التشوه الاجتماعي والقيمي والتشريعي…
جمال جصاني