في مثل هذه الشروط والمناخات المثقلة بالتمترسات العقائدية والمصالح الفئوية الضيقة المهيمنة على المشهد العراقي الراهن، تفشل غالبية التقارير الاممية (هيئات الامم المتحدة والمنظمات الدولية المستقلة و..) عن الوصول الى غاياتها ولا سيما منها تلك التي تقرع نواقيس الخطر، كما في التقرير الاخير الذي قرأته في مجلس الامن، الممثلة الخاصة للامين العام للامم المتحدة ورئيسة بعثتها الاممية في العراق الشخصية الهولندية المرموقة (جينين هينيس-بلاسخارت). تقرير تناولت فيه أبرز الملفات الساخنة في الساحة العراقية، ويمكن الاشارة الى ان أخطر ما جاء فيه تمثل في المقطع الآتي: “ينبغي علينا أن نكون بعيدين النظر، وأن ندرك بان التوترات الراهنة يمكنها وبكل بساطة؛ أن تتسبب في ضربة هائلة لكافة المساعي الوطنية والدولية الرامية، لاعادة بناء عراق مستقر ومزدهر. لذلك يتعين علينا ألا ندخر جهداً لتجنب ذلك المآل” وتوج ذلك التقرير بعبارة شديدة الوضوح حول مساعي الحكومة العراقية لمعالجة تلك الملفات بقولها “النتيجة النهائية هي ما يهم في نهاية المطاف”.
لنرى ما الذي يشغل الزعامات العراقية المستلقية على سنام اعلى السلطات في مثل هذا الوقت الذي يستمع فيه مجلس الامن لتقرير ممثلته الاممية. على رأس قائمة اولويات السلطة التشريعية (ام السلطات) ملف اخراج القوات الأجنبية من البلد ولا نحتاج الى جرد نوع مشاريع القوانين الفنطازية الاخرى التي تشغل قائمة عمل الفصل البرلماني المقبل، لأنها لا تشذ عما تعرفنا عليه من هموم واهتمامات الدورات السابقة. ان كل من يملك شيء من الاطلاع على حقيقة ما يجري لدينا، يعرف ان موضوع اخراج القوات الاجنبية وفي هذا الظرف بالذات لا يمت بصلة للمشاعر الوطنية والمصالح العليا للوطن والناس، فمثل هذه الهموم تقبع في قعر اهتمامات طبقة سياسية اتسمت غالبية ممارساتها وسلوكها بـ (اللصوصية والشعوذة) وهي قيم تتنافر وروح المسؤولية والشجاعة والايثار والتي ترافق دائماً المخلصين لحرية وكرامة الانسان والاوطان. بالنسبة لي شخصيا لا أحمل اي عتب على اعضاء هذا المحفل (البرلمان) كجماعات وكتل وائتلافات وأفراد؛ لانهم نتاج واقع وشروط حياة ونشاط اجتماعي وسياسي اختمر طوال أكثر من اربعة عقود، واقع غلب عليه سلب الارادة الحرة والوعي العميق من الجميع (الا ما رحم ربي) وهذا ما انعكس بجلاء في اعلى سلطة تشريعية وغيرها من سلطات وهياكل (لا حول ولا قوة…).
التقرير الاممي الاخير يحذر العراقيين من الامكانية السلبية التي قد تقوض وجود عراق آمن ومستقر، والى ضرورة ارتقاءهم افرادا وجماعات ولا سيما أولئك الذين رمتهم الاقدار الى سنام السلطات؛ الى مستوى المخاطر والتحديات التي تتربص بمصيرهم جميعاً. ان الاصرار على عدم الاصغاء لمثل هذه الدعوات، يهدد بفقداننا للمزيد من الفرص والوقت والامكانات البشرية والمادية، ولا سيما منها ثقة المجتمع الدولي ومساعداته المجربة في شتى المجالات والحقول. اننا وعلى الضد مما يحصل في بازار الاستعراضات والمزاودات الوطنية، نؤكد حاجتنا الماسة لوجود المجتمع الدولي ومؤسساته الاممية، بوصفها صمام أمان في هذا الظرف الذي تسعى فيه قوى التشرذم الفئوي والاجتماعي كي تستفرد بعيال الله، عبر دفعه الى عصور ما قبل الدولة الحديثة وتشريعاتها الداعمة لحقوق الانسان وحرياته وكرامته.
جمال جصاني