يوسف عبود جويعد
بين الأسطورة والحكاية الشعبية المستمدة من موروثنا الحضاري، وتقنية السرد الحديث، قدمت لنا الروائية عائشة إبراهيم روايتها (حرب الغزالة)، استطاعت فيها أن تصنع خلطة مركبة من تلك العوامل، وتغوص إلى أعماق التاريخ؛ لتستخرج من ثناياه حكاية مملكة (وان موهيجاج) التي قامت على سهل (تشوينت) والأراضي الممتدة بين غابات فزان الكبرى شمالاً وجبل الأكاكوس بأقصى جنوب غرب ليبيا إبان حكم الملكة تندروس.
وقد قادت مهمة إدارة دفة الأحداث تحت غطاء السارد العليم أو السارد الخارجي أو السارد المجهول، لأن متن النص تطغي عليه معالم الصوت الأنثوي، والحس الناعم، والسرد الهادئ الذي مهما تزاحمت الأحداث واحتدمت وتشعبت وتواترت؛ يبقى هذا الحس هو الحالة التناغمية التي تنسج من المسيرة السردية نغمات رائقة شفافة مرهفة الحس تدور في فلك الأحداث بهذه النعومة، وبالرغم من أننا نعيش داخل أحداث أسطورية موغلة بالقدم، إلا أنها تنقل إلينا حقائق تاريخية مهمة عن نشأة الشعب الليبي، مع نسبة من الخيال الخصب الذي لا بد منه من أجل نقل تلك الحقائق من موقعها التاريخي إلى عالم فن صناعة الرواية بكل مقوماتها، ولن نستطيع التنصل أو التخلص من سطوة وسحر عالمها الذي أنشأته في هذا النص لما يحتويه من حيوات وطقوس وأحداث وحروب، رحلنا معها إلى حيث الرمح والحجارة والنار والمنجنيق والأفاعي والغزلان، وحروب القبائل المتناحرة، وغزو الجراد، وطيور الوطاويط المتوحشة، وفن الرسم، وفن صناعة الأزياء بجمالها الطبيعي، وفلسفة الوجود، والبقاء للأقوى، وصراع الموت والحياة, وصراع الخير والشر، ومن الطبيعي ومن أجل أن تقوم الروائية بمهمتها الفنية المطلوبة، عليها أن تهتم بالعتبة النصية الأولى، أو البداية، أو مستهل الأحداث التي تشدنا وتزجنا لمتابعة الأحداث بكل اهتمام:
(بينما كان ميكارت يهم بمغادرة الحظيرة التي تؤوي فصيلة نادرة من الغزلان الشقراء والذهبية والبيضاء، والعسلية ذات البقع الحمراء، والرمادية المرقطة بلون الحليب، حلّقت سحابة من الوطاويط السوداء العملاقة على امتداد الأفق المائل إلى الغرب قليلاً، صفقت بأجنحتها العارية وأطلقت صرخات حادة موحشة ومستقرة، صكت سمع الرعاة، وأجفلت حيوانات الحظائر فصهلت الخيول، وخارت الأبقار والجواميس، ونبحت الكلاب، واختلطت أصوات أخرى في حظائر الغزلان والماعز والخراف، وداخل أقفاص الطيور وأقنان الدجاج والبط والأرانب. إنها ليست المرة الأولى التي تهاجم فيها الوطاويط مملكة (وان موهيجاج) ص6
من هنا، من البداية نتسلم الإشارات السيميائية الواضحة لمعرفة معالم هذا النص السردي، حيث تشير الدلائل إننا الآن وسط مملكة (وان موهيجاج) حيث تدور الأحداث، ومع الملكة تندروس التي تسلمت مهام إدارة المملكة بعد وفاة أخيها، وهي تحاول قدر المستطاع إخراج هذا الشعب من الظلمات إلى النور، والفنان ميكارت الذي يراقب حظيرة الغزلان، ويعزف ألحانًا شجية روحية حالمة بنايه الذي لا يفارقه، وهيريديس التي دخلت المملكة بعد إعلان الملكة عن مسابقة أجمل فستان تريد الملكة ارتداءه بمميزات مختلفة، وقد أحضرت للملكة ومن صنع يديها فستانًا يليق بملكة، وهذا كان بطاقة الدخول والعيش في هذه المملكة، وهيرماس قائد الحرس الملكي، ومهيلا فنان الملكة ورسامها، وهكذا تكون الروائية قد أعادت حياة مملكة وشخوص وقبائل مجاورة، وحروب سوف تدور في رحى هذا النص، وقتال، وبراعة هيدريديس التي ظهرت أثناء القتال، كل هذه الأحداث أمسكتها الروائية من أطرافها وسحبتها من متون صحف التاريخ وفرشتها في متن النص، لنكون معها ونتابع ما يحدث:
(قالت ذلك وفتحت جرابها لتخرج ثوبًا من المخمل الأرجواني المطرز بالدانتيلا البيضاء. وعند قاعدة العرش الرخامية فرشت قطعة الثوب، وسوّت بيديها النحيلتين أطرافه فكشفت عن لوحة موشّاة بتطريز زهري بديع يتمدد في الأطراف وصولاً إلى منطقة الخصر، وتزداد النقوش دقة وفخامة على الأكمام والحزام، أما منطقة الصدر فكانت خالية تمامًا من أي نقوش إلا من قلادة فضية كبيرة سُكَت بنفس نقوش الثوب) ص 22
وأن ما يثر الغرابة في هذا النص، أن الأحداث الغرائبية والعجائبية والفنتازيا، لم تكن محض خيال، أو نسجتها الروائية من خيالها، وإنما تلك الأحداث التي تنحى هذا المنحى، هي جزء من الأسطورة التاريخية التي قدمتها لنا الروائية والموغلة في القدم، مثل وادي الثعابين، وقوم أكلة لحوم البشر، وسنجد في مواطن أخرى كثيرة من هذا النص ما يشير إلى ذلك، ولكننا نعرف جيداً أن الأساطير تكمن بين ثناياها أحداث تفوق مدارك العقل، وهي التي تنسج تلك الأساطير، وفي رحلة ميكارت لاستعادة الغزالة نافي التي لها أهمية في قلوب شعب الموهيجاج، وتمثل سر زهوهم وسعادتهم، لما تحمل من صفات وجمال أخاذ، وتصرفات وطبائع تختلف عن بقية الغزلان، وقد كانت رحلته محفوفة بالمخاطر، فقد تعرض لهجوم أكلة لحوم البشر واقتيد مقيدًا بالأغلال، وأضرمت النيران لإلقائه فيها، إلا انه يتخلص بمهارة وبفكرة ذكية، لأنه استطاع أثناء رميه وسط النار أن يرمي تلك النيران وبسرعة فائقة على القبيلة فاشتعلت النار فيها وانشغلوا في إخمادها وكانت تلك فرصة للتخلص منهم:
(ولم يتوقع أحد أنه سيركض نحو الحفرة. كان الأمر صادمًا حين قفز باتجاه النار راكلاً بقدمه الجمر المستعر ليتطاير شهبًا حمراء تتساقط على رؤوس الرجال الرماديين والنساء العجفاوات، وعلى مخاريط البوص التي تغطي أكواخهم، تركوا الحبل وانشغلوا بذؤابات اللهب وهي تستعر عالياً، بُعيد لحظات تحولت مضارب القبيلة إلى مشهد حريق كبير ولا شيء يمكن سماعه سوى طقطقة خشب الأكواخ تلتهمه النيران وتلك الهمهمة البدائية التي تشبه صوت ضباع تلتهم فريسة، حينها قفز من خلف سياج الجماجم البشرية وانطلق يعدو بعيدًا كجواد يجنح قادم من بلاد الأساطير) ص 134
وبعد الوصول إلى قبيلة الاغيو التي تحتجز الغزالة، يعتقل أيضًا، وتنقذه ايجا زوجة الملك بشرط أن تهرب معه، بعد أن وضع الغزالة في جراب وساروا معًا، ليدخلوا وادي الثعابين:
(لقد أصبح المكان فجأة يعج بالثعابين الكبيرة المرقطة بالأخضر والأزرق، والنحيلة ذات الأوداج المنتفخة، وأخرى صفراء ذات جلاجل تصطك في ذيولها عندما تنسحب على الحصى الناعم. وأكفهر الهواء برائحة حامضية تخرج من الأفواه التي تطلق فحيحها في كل مكان
- أظننا سلكنا طريق وادي الثعابين) ص 189
أن نقل الأسطورة يتطلب من الروائي مهارة فائقة، فلا يمكن لهذا النسق الروائي وفضاؤه أن يكون قريب الشبه من أحداث تدور في الوقت الراهن، وإنما تكون الأحداث عجائبية غرائبية تفوق مدارك الواقعية، وهكذا فإن ميكارت يتعرض إلى لدغة ثعبان سام قاتل، وتقترب نهايته ويطلب من ايجا حمل الغزالة والنجاة من الوادي، إلا أن ايجا لم تنفذ الأمر، وكانت تفكر بين خيارين، أتبقي الغزالة حية أم ميكارت، إذ إن في داخلها خطة لإنقاذ ميكارت من الموت، وأخيرًا قررت أن تبقي ميكارت حيًا وتضحي بالغزالة، حيث شقت بطنها وأدخلت ساق ميكارت الملدوغة في الشق، فانسحب السم من جسم ميكارت إلى الغزالة فماتت في الحال، وعاش ميكارت، وهكذا تكون الأحداث قد بلغت ذروتها وانحدرت نحو الانفراج، عندما يصل ميكارت مشارف مملكة (ران موهيجاج):
(حين لاحت له من بعيد تخوم أرض الموهيجاج تتكئ على حبل الأكاكوس بكهوفه وصخوره وأقواسه وتعاريجه ورموزه وآلهته وجداول مائه وسجلاته التي تدوّن كل ما حدث في عصر الهولوسين المبكر، قدّر ميكارت أن رحلة الغزالة قد انتهت لترقد في ترابها، أما رسالتها في الحياة فلم تنته بعد، شأنها شأن كل المخلوقات التي رقشت على الجدران الصخرية في العراء، أو رسمت بالأصباغ في السقائف الظليلة، أو دفنت محنطة في المغاور. هناك في سقيفة ران موهيجاج رسم غزالته على الجدار بفروتها الذهبية وقوائمها الرشيقة الراقصة والرقعة الحمراء تزين خصرها النحيل، كان ذلك بعد أن أطلق سراح قطيع الغزلان من حظائر الملكة، فركضت نحو المروج الخضراء في سهول تشوينت التي جاءت منها.
وهكذا استطاعت الروائية أن تقدم عبر روايتها (حرب الغزالة) توليفة موفقة بين محاور كثيرة منها الأسطورة والحكاية بتقنيات السرد الحديث، في خطابات متعددة ترسل عبر إشارات سيميائية واضحة تظهر عندما يتابع المتلقي هذه الأحداث، وقد تركت النهاية مفتوحة لكي يعيش بعد الأحداث متاملاً بهذه الدورة من العوالم المبهرة.
*رواية (حرب الغزالة) للكاتبة عائشة ابراهيم، إصدار مكتبة طرابلس العلمية العالمية – ليبيا – 2019م.