في مثل هذه الأيام من شهر آب العام 2008، انطلقت زمرة من القتلة لتنفيذ ما صدر اليها من أمر بترصد واغتيال الابن البار لارث العراق المشرق كامل شياع (1954-2008). بالرغم مما اكتنف ذلك العمل الاجرامي المنظم من وضوح في الهدف والوسائل والاشخاص والجهات التي خططت له ونفذته؛ الا ان ملف الاغتيال البشع هذا انضم الى ذلك الارشيف الضخم من الجرائم والانتهاكات المسكوت عنها، والمفجع في الامر ان كل ذلك تم وعبر تواطؤ انخرطت فيه جميع الاطراف، بما في ذلك الجماعات التي توسم فيهم المغدور القيم والتطلعات التي هدهدها طوال حياته، داخل الوطن وفي المنافي التي عاد منها، مسكوناً بحلم صناعة عراق آخر بعد زوال النظام المباد ربيع العام 2003. ان قرار الاغتيال يختزن في حيثياته وتفاصيله الكثير من المعاني والمعطيات، وقد برهنت الاحداث اللاحقة وسلسلة الهزائم التي لحقت بمشروع “التغيير”؛ الى وجود عمل ممنهج وخطط تستهدف مثل هذه القافلة دون غيرها من أشباه المثقفين والفنانين وحطام السياسة والاحزاب التي لا تكف عن الصخب والضجيج والعنتريات الفارغة.
لقد تجسدت في شخصية الراحل الكبير مجموعة من القيم والممارسات والسلوك، مثلت في جوهرها الضد النوعي لما هيمن على العراق زمن النظام المباد وورثته بعد “التغيير”. وكل من تعرف على شيئاً من تلك الشيم والخصال الممزوجة بوعي وانحياز شديد لقضايا حقوق الانسان وكرامته وحرياته، يدرك الدوافع والعلل التي عجلت لجماعات الاجرام واللصوصية والشعوذة، اتخاذ مثل ذلك القرار. كان مدركاً لاهمية وخطورة الحقل الذي تطوع للعمل فيه (الثقافة) ووزارتها، كان مغايراً في سلوكه ومنهجيته التي تقرن القول بالفعل، واضعاً نصب عينيه مهمة استرداد مؤسسات الثقافة والفنون لوظائفها التي وجدت من اجلها، وهذا ما ادركته القوى والجماعات التي اتخذت قرار تصفيته على طريق محمد القاسم قبل 11 عاماً.
الحلم والتطلعات المشروعة لانتشال العراق من القبح والمسخ والحضيض المادي والقيمي الذي انحدر اليه، ما زال مؤجلاً الى اجل غير مسمى، والحقل الذي كرس الراحل الكبير كل حياته ومواهبه لخدمته (الثقافة والفنون) تحول الى مكب واسع لمخلفات وحطام النظام المباد ومؤسساته، بعد أن سلمت الطبقة السياسية حقيبتها الوزارية لشخصيات لا علاقة لها بهذا الهم الاشد تأثيرا في حياة المجتمعات والدول (امام جامع ارهابي ثم شرطي وبعده عسكري و…) ليعاد انتاج العراق الذي يتبوأ اليوم مقعده في صدارة البلدان الاكثر فشلا وفسادا وتخلفاً.
ان مسلسل عمليات الاغتيال لمثل هذه الشخصيات المسكونة بالوعي العميق وروح المسؤولية والايثار، هي جزء من عمل واسع يقف خلف هذا التدهور والاستنزاف المتواصل لثروات وامكانات وفرص هذا الوطن في اللحاق بركب الامم التي أكرمتها الأقدار بالقدرة على تذوق وفهم معنى الجمال والاحتفاء بصانعيه ورموزه، هذا الاجرام المشرعن والمنظم هو من يرفد كل هذا العجز والخراب وانسداد الآفاق التي تتلقفنا جيلاً بعد جيل ودورة انتخابية بعد أخرى. قتلة كامل شياع كما هي سلالات القتلة في هذا الوطن المستباح، ما زالوا احراراً وغير قلقين لا وجدانيا ولا قانونياً جراء ما ارتكبوه من جرائم بحق أفضل وأجمل ما امتلكه العراق من شخصيات، وهذه المعادلة كفيلة بمحق كل الادعاءات الزائفة حول التغيير والعراق الجديد…
جمال جصاني