بالرغم من مرور وقت ليس بالقليل على زوال الدكتاتورية (أكثر من 16 عاماً) وانطلاق ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، والتي شهدت اجراء عدة دورات انتخابية برلمانية ومحلية؛ الا ان حال النظام الجديد (الديمقراطي) لا يسر أحدا، فالنتائج بشكل عام كانت مخيبة للآمال. على صعيد البرلمان شهدنا نوع الكتل والشخصيات التي وصلت الى مقاعده، وكيف فشلت هذه “الديمقراطية” وصناديقها باداء أهم وظائفها (مكافأة الصالح ومعاقبة الطالح) لتتواصل دورات الخيبة والفشل على شتى الاصعدة السياسية والاقتصادية والقيمية. الديمقراطية كنظام للحكم تستدعي النهوض بالبلد وتقويم أحواله دورة انتخابية بعد أخرى، لا كما يحصل لنا معها على تضاريس هذا البلد المنكوب بقوارض المنعطفات التاريخية. محنة هذه المنظومة السياسية والقيمية الراقية انها هبطت على مضاربنا، في حقبة هي الأسوأ في تاريخه السياسي الحديث، حيث انعدمت فيه أهم ما تحتاجه من مستلزمات وشروط، وعلى رأس ذلك شرط وجود الاحزاب والجمعيات السياسية والمهنية، بعد ان تم القضاء على كل أشكال التعددية زمن النظام المباد.
صحيح ان خشبة مسرح ما بعد “التغيير” قد شهدت تقافز عدد هائل من “الاحزاب” والجماعات التي تنطعت لشؤون العمل السياسي والمهني والاجتماعي، حيث سجلت المفوضية المستقلة للانتخابات أكثر من 200 كيان؛ الا ان هذه الظاهرة لم تعكس أي مؤشر على تعافي المشهد السياسي بالبلد، بل العكس هو الصحيح، حيث ساهمت بشرذمة المشهد ودفعه الى مسارب بعيدة كل البعد عن الحاجات والتحديات الواقعية لمثل هذه المرحلة المهمة من تاريخ العراق الحديث. لقد وقفت القوى والكتل التي تلقفت مقاليد امور ما يفترض انها مرحلة للتحولات صوب الديمقراطية والتعددية والحداثة، بالضد من روح هذه المنظومة الحضارية المجربة، حيث تم افراغها من شحناتها ووظائفها الحيوية البناءة، ويمكن القول اننا اليوم أمام ما يمكن أن نطلق عليه بـ “الديمقراطية المعطوبة” أي المنزوعة الروح والهوية والغاية من وجودها، وكما قال أحد جهابذة حقبة الفتح الديمقراطي المبين عندما تورطوا بها: “اننا مع آليات الديمقراطية من دون فلسفتها”، عبارة تختصر لنا الكثير من الوقت والجهد في فك طلاسم غرائبية المشهد الراهن.
ان عجز آلية الانتخابات عن معاقبة هذه الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة، يدعونا الى التوقف الجاد عند هذا الخلل البنيوي، والذي تكرر بشكل سافر في الانتخابات البرلمانية الاخيرة عندما اعادت تدوير نفس البضاعة السياسية، وفي انتخابات برلمان اقليم كوردستان؛ عندما منحت الصناديق الحزب المسؤول عن نكبة الاستفتاء على استقلال الاقليم (البارتي) حصة وتفويضاً أكبر مما كان عليه في الدورات الانتخابية السابقة، هذا وغيره الكثير يدعونا الى التوقف طويلاً عند هذا الخلل الذي يلحق أفدح الأضرار بحاضر ومستقبل هذا البلد. ان هذه الطبقة السياسية (من الفاو مروراً ببغداد الى زاخو) تدرك نوع الاحتياطات الهائلة التي يقدمها لهم نمط الحياة الاقتصادي الطفيلي الراهن (الاقتصاد الريعي) عندما حولت الوظيفة الحكومية الى اداة جبارة لتعبئة الناس في حملاتها الانتخابية (تضاعف عدد موظفي الدولة اربعة اضعاف ما كان عليه لحظة زوال النظام المباد) من دون الالتفات الى المصائر والعواقب الكارثية لمثل هذا السلوك المشين، المغاير تماماً وما تحتاجه الديمقراطية من مستلزمات وشروط كي تقدم أفضل ما لديها..
جمال جصاني