الارواح الشريرة في تراث وادي الرافدين

عمار حميد مهدي

تركت لنا اثار حضارات وادي الرافدين المتعددة خزينا ثقافيا يتميز بتنوعه بما حوى من قصص وشخصيات أسطورية تعددت ما بين الآلهة والمخلوقات الناتجة عن الخيال الخصب لهذه الحضارات وفي هذه المجال يتناول البروفيسور (أيرفنغ فينكل) القيِّم في المتحف البريطاني المختص في علم المسماريات والمسؤول على قسم حضارات الشرق الأوسط الحديث عن الشياطين والاشباح والأرواح وغيرها من الكائنات الاسطورية وما تسببه من مشاكل وتأثيرات على الحياة اليومية للأنسان في حضارة وادي الرافدين وكيف يُعتقد انه كان يتم التعامل معها ، فقد كان هناك نظام مثير للاهتمام فعلا يتضمن طرق التعامل مع هذه الارواح في الثقافة والأعراف الرافدينية في حضارات سومر وبابل وآشور.
فعندما يولد الطفل يوضع تحت حماية آلهة معينة وهذه الآلهة ستكون مسؤولة عن حماية الطفل اثناء نموه وخلال حياته ، قد يبدو هذا نظاما جيدا لحماية الشخص من الأرواح الشريرة ولكن في اعتقاد سكان بلاد الرافدين تبدو طبيعة الآلهة الحامية مرتبطة مع طبيعة الشخص ونتيجة لذلك فأن الاشخاص الغير موثوق بهم او الذين يكذبون والزناة والمخمورين والذين يعانون من الكآبة او الحالة النفسية السيئة سيحملون هذا التأثير السلبي الى الآلهة المكلفين بحماية اشخاص كهؤلاء وهذا يعني انهم سوف لن يتمتعوا بحماية دائمة ما يؤدي الى نتائج سيئة حيث توجد العديد من الأرواح والشياطين والعفاريت والتي لايمكن رؤيتها هائمة تنتظر الفرصة لتنقض على هؤلاء الاشخاص الفاقدين لحماية الآلهة ، فأذا هجرتك الآلهة المكلفة بحمايتك او صدر منك تصرف غير لائق مع شخص آخر فأن هذه الشياطين تهاجمك.
بعض هذه الشياطين والارواح الشريرة معروفة جدا في اساطير بلاد الرافدين ومن بينها (لاماشتو) وهي امرأة برأس أسد وتظهر في التمائم الحجرية المستخدمة للحماية من الارواح الشريرة وتقوم بأرضاع ذئب وكلب او خنزير وحشي ممسكة بالأفاعي في يدها وحول خصرها وتقف على ظهر حمار فوق زورق وفي بعض الاحيان تبدو النقوش التي تُظهر (لاماشتو) بتفاصيل كثيرة تدل على معرفة الناس بما تبدو عليه بشكل واضح ويعلمون بشكل أدق ان يتجنبوها بحذر لأن اهتمام هذه الروح الشريرة ينحصر في الأطفال والرضّع والنساء الحوامل ومن هم على شاكلة هؤلاء وهذه الشخصية تشبه كثيرا شخصية (التابعة) من حيث الفكرة التي ترافق الحوامل والنساء بشكل عام في المجتمع الريفي العراقي.
وهناك نصوص شعرية مسمارية تتحدث عن (لاماشتو) تصورها وهي تتجول في الطرقات تتشمم أبواب المنازل بحثا عن الأطفال حديثي الولادة وتتسلل لألتهامهم ، لذلك فأن (لاماشتو) تمثل تجسيدا للخطر اثناء عملية الولادة في ذلك الوقت وتجسيدا لكل ما تخشاه النساء فقد كانت توصف بالرشاقة والخطورة ، والشيء المميز الاخر الذي تبرزه التمائم بخصوص (لاماشتو) انه كان لديها عدو لدود اسمه (بازوزو) وهو شيطان بوجه قبيح جدا ذو ملامح مشوهة ويبدو للوهلة الاولى انه من الارواح الشريرة التي يجب ان يتجنبها الشخص الا انه كان على العكس من ذلك لأن قباحة وجه (بازوزو) كانت كفيلة بأبعاد وطرد (لاماشتو) تماما! وتوجد تمائم تبين ذلك فمثلا اذا لمحت (لاماشتو) الشيطان (بازوزو) من احدى النوافذ فأنها ستولي هاربة.
نحن لانعرف بالضبط لماذا يمتلك (بازوزو) هذا التأثير المخيف على (لاماشتو) لكن بروفيسور (ايرفنغ) يكشف عن تفسير شخصي توصل اليه رغم انه لايوجد دليل لنظريته لكنها تنص على ان (بازوزو) و(لاماشتو) كانا متزوجين ثم تحولا الى عدوين بعد ان تطلقا وكان طلاقهما مأساويا جدا كالذي نواجهه في الروايات الادبية او الحياة الواقعية حيث لايحتمل احدهما رؤية الاخر تحت اي ظرف من الظروف وهذا مايمكن ان يفسر قوة وتأثير طبيعة هذا الردع والنفور فيما بينهما
وبالرغم من ذلك واجه (بازوزو) انتقادا وافتراءا لاذعا من قبل صنّاع السينما في هوليوود وهجوما على شخصيته حين تم انتاج فيلم يتناول حكاية فتاة كان يبدو انها طبيعية بشكل ممتاز ثم تبدأ وبشكل مفاجئ بالتصرف بشكل مرعب وكأن روحا شرية قد تملكتها كما ان بداية الفيلم قادت الى هذه المشاكل والهجوم على هذه الفتاة غير المحظوظة حين يظهر تمثال (بازوزو) امام المشاهدين لتقدمه هوليوود على انه شخصية شريرة لكنه في الواقع عكس ذلك تماما
لذلك تبدو بعض الشياطين في مفهوم حضارات بلاد الرافدين انها تتصرف بشكل شرير جدا ولديهم بعض القدرات مثل التملك والسيطرة او (المَس) والنفوذ من خلال الاجساد وجعل من يخترقوه يعاني المرض ولابد من طارد الاوراح ان يعالج هؤلاء الاشخاص واخراج الشياطين من الجسد وارجاع الشخص لحالته الطبيعية ولديهم وسائل مختلفة لفعل ذلك مثل حرق بعض الاشياء وجعل الشخص الممسوس يستنشقها او اعطائه قليلا من الصوف وتمائم حول العنق وامورا اخرى اعطتهم الخبرة للتصرف والمعالجة في حال وجود روح شريرة مست شخصا ما.
وفي النهاية يقول (فينكل) : توجد طريقة واحدة للتخلص من هذه الاشكال العدائية وان نجعلها تتراجع من خلال وضع اشكال لها في قارب صغير على شكل لعبة وفيما يتعلق بـ(لاماشتو) العاشقة لأكل الاطفال توضع دمية لها في قارب مع اشياء مثل متاع للطعام ومشبك للشعر ومشط وهي امور نسائية تجعل فكرها يبتعد عن الاطفال ثم يضع طارد الارواح الشريرة هذه الاشياء في قارب في نهر دجلة السريع الجريان وسرعان مايختفي عن الانظار.
عمار حميد مهدي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة