مصطفى فلاح
تسلمت تركيا المعدات الأولى من منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، في 12 يوليو 2019، الأمر الذي سينعكس بصورة كبيرة على العديد من الملفات الإقليمية والدولية بعضها يتعلق بتركيا وارتباطاتها الخارجية والبعض الآخر يتعلق بسباق التسلح الإقليمي، إضافة لذلك فإن المنظومة الجديدة ستكون الملف الأكثر تأثيرًا على العلاقات الأميركية – التركية، بل الأمر سيتعدى هذا الثنائي ليكون تداعياته ممتدة إلى مصير تركيا في حلف شمال الأطلسي(الناتو)، وهذا الأمر سينعكس أيضًا على العديد من الملفات الأخرى مثل ملف الأكراد، وغاز شرق المتوسط، وانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، عوضًا عن انعكاساته السلبية على مستوى التسلح التركي من المعسكر الغربي بشكل عام، ومن زاوية أخرى انعكاس امتلاك هذه المنظومة على القدرات الدفاعية للعديد من دول الجوار التركي خاصة الدول العربية وإيران.
دوافع متعددة
تتبع أنقرة سياسة من شأنها العمل على خلق مساحات فردية يمكن من خلالها الحفاظ على هامش واسع للحركة الخارجية، بعدما أدركت أن ارتباطاتها وفق آليات الأمن الجماعي الخاصة بحلف الناتو لم تعد تلبي تطلعاتها العسكرية الداخلية والخارجية، ومن ثم عملت على تفكيك جزء كبير من ارتباطاتها الأمنية بالمعسكر الغربي بالتقارب مع روسيا ويمكن إرجاء الدوافع التركية إلى العديد من الأسباب أهمها:
1) المتغير الأميركي: تعد العلاقات الأميركية – التركية في نمط محدداتها أحد أهم الدوافع التركية تجاه التقارب مع روسيا، خاصة وأن السياسة التركية تنتهج سياسة براجماتية تقوم على المعايير المزدوجة الحاكمة لنمط العلاقات الأميركية – الروسية بالأساس، فهي تستغل حالة التناقضات في العلاقات تلك.
2) المتغير الروسي: اشتراك تركيا وروسيا في الملف السوري الذي يمثل أحد الملفات المهمة بالنسبة للجانب التركي خاصة فيما يتعلق بالمعارضة السورية أو الملف الكردي، وخاصة في ظل التقارب الأميركي مع الأكراد وتزويدهم بالأسلحة والدعم السياسي.
3) المتغير الاقتصادي: تتعرض تركيا لحالة من الضغوط الإقليمية والدولية على خلفية الاكتشافات الجديدة للغاز في منطقة شرق المتوسط، والتي تحاول تركيا أن تستحوذ على هذه المقدرات الاقتصادية الكبيرة خاصة في ظل حالة التراجع الاقتصادي التي تشهدها تركيا من ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة، وازدياد معدلات البطالة.
4) المتغير التسليحي: يتمثل هذا الدافع في الادراك التركي بأن اعتمادها على نمط تسليحي واحد متمثلًا في المعسكر الغربي، لا يمكن أن يلبي طموحاتها الخارجية أو في مواجهة التهديدات المحيطة بها، وخاصة بعدما اتخذ حلف الناتو موقفًا لم يساند فيه تركيا إبان أزمتها مع روسيا بشأن إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر 2015، بالإضافة لذلك فرض الحلف ضغوطًا على تركيا كي لا تستحوذ على أنظمة دفاعية صينية من الشهر نفسه، إضافة لذلك تشهد العلاقات التركية مع المعسكر الغربي بنحو عام حالة من التوترات المتصاعدة تجاه العديد من الملفات الداخلية أو الخارجية، الأمر الذي يضيف بعدًا آخر لأهمية التوجهات التركية تجاه روسيا؛ حيث تنتهج تركيا مؤخرًا سياسة دفاعية تتسم بالاستقلالية، إذ أقامت روابط أوثق مع روسيا بعد توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا.
وتأسيسًا على ذلك يمكن القول بأن الرؤية التركية تأتي وفق العديد من الدوافع والمؤثرات التي تمثل في معظمها رد فعل على السياسات الأوروبية والأميركية تجاهها في العديد من القضايا الخارجية والداخلية، ومن ثم تسعى أنقرة إلى محاولة توظيف جميع الأطراف في الاتجاه الذي يخدم مصالحها سواء في المعسكر الغربي أو الشرقي، ومن خلال ذلك تهدف تركيا إلى تحقيق مزيد من التفاعل مع السياسات الإقليمية والدولية ومحاولة لعب دور مهم في صياغة تلك الأحداث خاصة تلك المرتبطة بمصالحها القريبة، من خلال توظيف التناقضات بين الجانبين لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة في تنفيذ أهدافها الإقليمية وتحقيق حماية لأمنها القومي، وبلورت تركيا استراتجيتها العسكرية على مواجهة المخاطر الداخلية كالحركات الكردية المسلحة، ومواجهة الخطر الخارجي من تقلبات الصراعات الإقليمية والدولية تكون تركيا أحد أطرافه. (1)
انعكاسات محتملة
لا شك أن امتلاك تركيا لهذا النمط من التسلح المتطور يثير العديد من التخوفات لدى العديد من الدول الإقليمية والدولية، الأمر الذي سينعكس بصورة أكبر على علاقات تركيا الخارجية أو فيما يتعلق بحدود امتلاك الدول الأخرى في المنطقة لمثل هذه الأنواع من الأسلحة، وبالتالي ازدياد معدلات النفقات العسكرية خاصة وأن المنطقة الجغرافية القريبة من تركيا تشهد عدة بؤر صراعية وما تزال مستمرة حتى الآن، وفيما يلي أبرز تلك القدرات التسليحية الجديدة التي امتلكتها تركيا: (2)
1) تعد منظومة أس-400 أحد أكثر أنظمة صواريخ أرض جو تطورًا في العالم، ويبلغ مداها 400 كيلومتر، ويمكن لها إسقاط ما يصل إلى 80 هدفًا في وقت واحد.
2) يمكن للنظام أن يضرب أهدافًا جوية تتراوح بين طائرات بدون طيار منخفضة إلى طائرات تطير على ارتفاعات مختلفة وصواريخ بعيدة المدى.
3) تتبع جميع الأجسام المختلفة بواسطة الرادار وإرسال المعلومات عنها إلى وحدات القيادة، وهذه الخاصية تتيح لها سهولة استهداف طائرات أف 35 الأمريكية أو جمع المعلومات عنها.
وتأسيسًا على ذلك يمكن الحديث عن أبرز الانعكاسات السلبية والإيجابية حول امتلاك هذه المنظومة من الدفاعات الصاروخية على النحو التالي: (3)
1) الجانب الأميركي: كانت الولايات المتحدة قد طلبت من تركيا بأنها لا يمكنها امتلاك منظومة أس-400 وطائرات مقاتلة أميركية من طراز أف-35 في الوقت نفسه، وبعد إتمام الصفقة الروسية التركية؛ فإن من المحتمل أن تقوم الولايات المتحدة بإخراج تركيا من برنامج تصنيع المقاتلة «إف-35»، بل يمكن أن تفرض عليها أيضا عقوبات أخرى من بين 12 نوعا من أنواع العقوبات المتاحة بموجب القانون الأمريكي، مثل فرض قيود على الاستثمارات في السندات الأميركية، وتقييد وصول الشركات التركية إلى القطاع المالي الأميركي، فيما يمكن لترامب أن يطلب من مؤسسات مالية دولية مثل صندوق النقد الدولي رفض تقديم قروض للمؤسسات التركية التي يتم مقاطعتها، إضافة إلى منع البنوك الأميركية من تقديم قروض للشركات والمصارف التركية تزيد قيمتها على عشرة ملايين دولار، إضافة إلى استهداف القطاعات العسكرية التركية والشركات العاملة داخله، وبالتالي سيكون من المستحيل لتلك الشركات شراء مكونات أميركية للمعدات التي تنتجها في تركيا.
2) الجانب الروسي: قد تؤدي سياسة تركيا الهادفة إلى تنويع مصادر تسليحها إلى زيادة مستوى التعاون الروسي التركي بنحو عام وتجاه الأزمة السورية بشكل خاص، كما أن هذا التقارب سيؤدي إلى ابتعاد تركيا عن الحلف الغربي وأنها بذلك تكون قد قطعت تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بالإضافة إلى أن صفقة السلاح الروسية لتركيا قد تغير التحالفات الإقليمية والدولية بشكل عام.
إن صفقة الصواريخ الروسية ليست مسألة عسكرية فقط وإنما أيضًا معضلة سياسية كبيرة، خاصة في ظل بحث تركيا عن بديل قوي للمعسكر الغربي، حيث ستمثل هذه الصفقة اللبنة الأولى لتطوير العلاقات الثنائية بين أنقرة وموسكو بعدما توترت في نوفمبر 2015، على خلفية اسقاط الطائرة العسكرية الروسية، ما يعني أن تركيا ستكون في محور الاهتمام الروسي لفترة طويلة من الزمن، خاصة وأن روسيا تحاول أيضًا إيجاد خلافات بين دول الناتو، وفي الوقت نفسه تريد أن يكون لها حلفاء في الشرق الأوسط.
وتستغل روسيا في ذلك الأمر توجهات النظام التركي الخارجية التي ما تزال تحاول الحركة بين مساحة التناقضات الإقليمية والدولية، ومعركة إس 400 واحدة من أبرز هذه المناورات التي تسمح بالابتزاز والمقايضة من دون تموضع استراتيجي جديد لتركيا بقدر ما هي لروسيا.
3) الأكراد: يمثل الأكراد أحد أهم الأوراق الضاغطة على تركيا والتي يمكن أن يتم توظيفها من جانب الولايات المتحدة للضغط على تركيا خاصة أكراد سوريا والعراق؛ حيث يتم تمويل وتسليح تلك الجماعات التي تستهدفها تركيا بالأساس داخليًا وخارجيًا.
4) حلف شمال الأطلسي(الناتو): قد يؤدي امتلاك أنقرة لمثل هذه الدفاعات الصاروخية إلى ابتعاد تركيا عن الحلف أو استبعادها خاصة وأن العلاقات بينهما تشهد حالة من التوترات المتصاعدة في نمط العلاقات الثنائية بينهما، والذي كانت أحد المحركات الأساسية التي دفعت تركيا إلى البحث عن نمط تسليحي آخر بجانب ذلك، في ظل الادراك التركي بأن حلف الناتو لم يعد يوفر لها الضمانات العسكرية والسياسية الكافية في ظل تزايد حجم التهديدات التي تشعر بها تركيا في محيطها الإقليمي والدولي، ومن ثم فمن المرجح أن تنعكس تلك العلاقة على مستقبل ومصير استمرار التواجد التركي داخل الحلف، أو من الممكن أن يقدم الحلف أنظمة أخرى بديلة عن تلك الدفاعات الصاروخية الروسية وذلك لمواجهة الصعود الروسي.
5) الأمن الإقليمي: لا شك أن امتلاك تركيا لمثل هذه المنظومة من الدفاعات الصاروخية سيؤدي إلى بلورة مشهد أكثر تصعيدًا من جانب العديد من الدول خاصة تلك المرتبطة بمناطق النزاعات في المنطقة العربية أو في منطقة شرق المتوسط؛ حيث الموارد الاقتصادية، وبالتالي هذا الأمر سيدفع تلك الدول إلى امتلاك تكنولوجيا تسليحية متطورة لمواجهة هذه التوجهات، ومن ثم حدوث مزيد من التوترات التي ستدفع الأمن الإقليمي إلى حالة من عدم الاستقرار على المستويين القريب والمتوسط.
ختامًا: من المحتمل أن تشهد تركيا حالة من الانعكاسات التي تمثل في معظمها سلبية برغم امتلاكها لمثل هذه المنظومة المتطورة من الأسلحة، الأمر الذي سيتكشف بصورة كبيرة خلال الفترة القادمة.
المراجع
1) مصطفى صلاح، متطلبات الدور .. التسلح العسكري التركي والمقاربة الأميركية – الروسية
2) أردوغان يتحدى واشنطن بشأن منظومة أس-400 الروسية
3) تركيا بحاجة إلى بديل عن الغرب والبديل روسيا، على الرابط:
المركز العربي للبحوث والدراسات