الصدفة التي رمتني الى العاصمة الايرانية (طهران) مع بدايات الثورة الشعبية، ومارافقها من احداث وتحولات تراجيدية، ساعدتني على اكتساب اطلاعاً ومعرفة بتفصيلات مهمة حول ذلك المشهد المعقد والذي ازداد وجعا ومرارة بعد القرار الاهوج للرئيس العراقي المعدوم بشن “قادسيته” على الجمهورية الاسلامية التي تأسست على أنقاض نظام الشاه. وكما هي لعنة الحروب غالباً، فقد تمخضت عن مناخات وشروط متنافرة وحاجة شعوب البلدين للحرية وامتلاك المؤسسات الضامنة للحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية. في ايران تم تنفيذ برنامج شامل لتصفية جوهر ما وعدت به الثورة أي العدالة الاجتماعية والحريات والتعددية السياسية والثقافية، ولم تنتهي تلك الحرب العابثة والمدمرة، حتى وجد الايرانيون انفسهم أشبه بغريمهم في سيادة اللون الواحد والقائد الاعلى من الدستور وغير ذلك من اساليب الاستئثار بالسلطة المطلقة (العراقي بعثي وان لم ينتم) كذلك نزع حق المواطنة عن الايراني الذي لايؤمن بولاية الفقيه (لايحق له دستوريا من الترشح لاي موقع سياسي أو مهني في النظام الجديد).
هذه هي المصيبة والكارثة التي وقفت وراء ما جرى للعراق بعد سلسلة قادسياته، وما يحصل اليوم عند الجارة ايران، والتي وجدت نفسها أخيراً أمام حرب اقتصادية ضروس تشتد قبضتها يوماً بعد آخر على شتى مجالات الحياة فيها، وبنحو خاص على الكادحين منهم أو ما يعرف بقاموس الثورة “المستضعفون في الأرض” المجبرون على تسديد القسط الاكبر من فواتير هذه المغامرات العقائدية البعيدة عن المسؤولية والحكمة. ان الاصرار على زج الشعوب الايرانية بمثل هذه النزاعات والصراعات، التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لم يهدر الامكانات والثروات والفرص التي سنحت لهم وحسب، بل تهدد اليوم اسس استقرار ايران ومستقبلها. وهذا ما يعتقده الكثير من الايرانيين المخالفين لتوجهات النظام المعلنة ولا سيما في مجال رفض المفاوضات المباشرة وغير المباشرة مع الولايات المتحدة الاميركية، كما حصل مع السيد شينزو آبي رئيس وزراء اليابان، حيث مثلت زيارته لطهران فرصة لابعاد ايران عما يتربص بها من مخاطر وعواقب وخيمة. ان مشكلة هذه الانظمة انها لا تلتفت الا لزمر الحبربش التي تطوف حولها، وهذه الزمر لا تتجرأ على تقديم الآراء الشجاعة والمسؤولة لـ “اولي الأمر” وهذا ما تجرعناه تماماً في العراق على ايقاع انشودة (فوت بيه وعل الزلم خليه) وكان ما كان مما تعرفون..!
المتابعون للشأن الايراني وكذلك الكثير من الشخصيات الايرانية المرموقة في الحقول العلمية والسياسية والدينية والمعرفية؛ لا يجدون اية اسباب وعلل جدية لهذا العداء الشديد والطويل لايران مع الولايات المتحدة الاميركية، اللهم الا الشعارات والهتافات العقائدية والآيديولوجية المصرة على مرافقتنا من عصور الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وكل من يعرف شيئاً عن تحولات العلاقة بينهما قبل الثورة وبعدها، بمقدوره ان يدرك حجم الاغتراب واللاواقعية في التعاطي مع هذا الملف المزمن. وعبر مرور سريع على تجارب الحروب والصراعات الدولية والاقليمة؛ نجدها وقد تجاوزت مثل هذه المحطات العابرة في تاريخها الحديث، وما العلاقة الحالية بين فيتنام واميركا ولا سيما في المجال الاقتصادي الا مثال لا يتناطح عليه كبشان على ضرورة التعاطي البراغماتي في ادارة دفة العلاقات بين البلدان بعيدا عن ثارات وشعارات وانفعالات المحطات الثوروية العابرة…
جمال جصاني