يوسف عبود جويعد
في محاولة للتجديد، تقدم لنا الروائية حنان المسعودي، روايتها (بين الرصافة والجسر) بإسلوب مختلف، ومغاير لما اعتدنا عليه، كون إنها في روايتها السابقة تقدم لنا حكاية خمس نساء، الا أنها في هذا النص السردي تقدم لنا الروائية حكاية سبعة شباب زملاء دراسة في كلية واحدة، كما نجد أن السارد الذي يقوم بإدارة دفة الاحداث صوت ذكوري، يعيش معهم ويتفاعل مع الاحداث وفي كل خطوة من خطوات مسار السرد, يقدم لنا رؤيته وتحليلاته ومدى تأثره بمجريات الاحداث، وهي حالة مكملة لحركة الاحداث، دون أن نحس بأن دخوله في النص عملية تعكر صفو انسيابية وإيقاع المسار، ويتم اكتشاف ذلك من خلال تقنيات الكتابة إذ نجد أن الراوي عندما يكون حاضراً يتغير نمط الحروف من الخط العادي الى الخط العريض، وتستهل الروائية دخول الراوي الى النص في العتبة النصية التي نلج من خلالها الى الاحداث:
(مرحباً بكم….
أنا راوي هذه الحكاية، الممتعة أو المملة، السعيدة أو الحزينة، الحكاية التي عرفتها جيداً وعاصرت أحداثها، وها أنا أتكلم.
كثيراً ما راقبتهم دون أن يشعروا بي، أحببتهم، كرهتهم أو اشفقت على شبابهم، ربما كنت معهم ولست معهم، بجوارهم وبعيداً عنهم، كنت أدور بأفلاكهم، أضطرب لنبضاتهم، أسمع قهقهاتهم…أضحك أو أبكي عليهم، كانوا يمتلكون المقدرة على ضخ الحياة في روحي المتيبسة لمن لإيراني؟)
وهكذا يكون هذا الراوي حالة جديدة إذ أنه موجود في مفاصل الأحداث ويتابع حركة السرد ويقدمها لنا بطريقة تفاعلية دون أن يكون شخصية من الشخصيات فليس له كيان أو اسم أو ملامح لكنه معهم.
تقدم لنا الروائية حنان المسعودي، ثيمات متعددة ومهمة، تتعلق بالحياة بالبلد، والعلاقات الإنسانية والعاطفية والاجتماعية، وتقدم لنا رؤية فلسفية مهمة وهي أن الحب يشبه الى حد بعيد بذور النباتات، الذي لا يمكن أن ينمو الا بوجود تربة صالحة لهذا النمو، وما حدث ويحدث في هذا البلد سبب كبير في فشل حالات حب مهمة كادت أن تكون قصص رومانسية عاطفية مهمة، الا أنها ذبلت وماتت العاطفة فيها، والسبب هو هذه الفوضى وهذا الخراب الذي حل بالبلد،
وهكذا نجد علاقة الزمالة بين صبا ومروان التي تحولت بالتدريج الى حالة حب لتصل الى حد الإرتباط قد توقف نموها بسبب تلك النعرات الطائفية، فهو سني وهي شيعية، وكذلك نجد تأثير هول واقع هذه الارض التي بدت كجمرات مشتعلة تحت أقدام هذه الشلة،
وكذلك نجد رؤية اخرى وثيمة مهمة وهي أن النصر يصنع عندما يكون الصمود لا للمقاتلين وحدهم في سوح القتال، وانما يشمل أبناء البلد الواحد جميعهم.
وهكذا نجد المحاور الرئيسية في هذا النص قد تكشفت لنا، الحياة التي نعيشها قبل هذا العصف المقيت، التغيير، والحياة التي أجبرنا أن نكون في أوتونها، والحياة التي يجب أن نصل اليها.
ومن خلال حياة هذه الشلة المكونة من سبعة زملاء تربطهم وشائج المحبة والود والتعاطف، كذلك مشاركة بعضهم لبعض في افراحهم واحزانهم وكل ما يحدث لهم ، صبا، مروان، عبد العزيز، زياد، حيدر، دينا، شيرين، حيث تضعهم الروائية في المبنى السردي ونعيش حياة كل واحد منهم، في شكلين مختلفين الاول العلاقة الرائقة الصافية النقية التي تجمعهم، والثاني حياتهم وسط اسرهم وداخل البلد المشتعل، حيث تدور الاحداث في الوقت الذي اجتاح دواعش الظلام والجهل هذا البلد، وقد قسمت فصول هذه الرواية بإعتماد الرقم سبعة:
سبعة احلام، سبعة باوندات، سبعة ايام، سبعة اخوة، سبع سيمفونيات، سبع رصاصات، سبع مواد، والخاتمة سبعة أقدار.
وهكذا نكتشف أن هذه الشلة من الشباب الواعي، نموذج لتلك البذور التي تبحث عن تربة طيبة تصلح للزراعة والنمو، نمو الحب، نمو المودة، نمو السلام، نمو العلاقات الإنسانية النبيلة، الا أن ذلك أمر صعب المنال في بلد غزته قوى الظلام والجهالة وتفشت فيه أمراض كثيرة وخطيرة تنذر بالموت، الطائفية، الإنفجارات، الاختطاف، الحواجز الكونكريتية، الازدحام الخانق في الشوارع الذي صار معاناة وهم لا ينتهي. فنجد الروائية نقلت حياة تلك الشلة بشكل متناسق وهي تتنقل بين زياد الذي اختطف والده، ولكنه يخفي المه بالضحك والمزاح كالطير الذي يرقص مذبوحاً من الالم. وحيدر الذي يعاني من الوصول الى الكلية وبالعكس بسبب صعوبة الطريق، وكذلك فقدان والده، وعبد العزيز الذي أحب أمل ولم يجرؤ على مفاتحتها، وصبا ومروان التي صارت الطائفية حاجزاً يحول بينهما للوصول الى الإرتباط المقدس الزواج، وشيرين وقصة حبها مع سيروان، وقصة حب دينا لأستاذها معاذ، وخجلها من بدانتها ومحاولتها تخفيف وزنها بطرق قاسية.
ومن هنا تبدأ مهمة الروائية أكثر صعوبة وعليها إدارة دفة الاحداث من خلال الراوي دون أن تعطي دور البطولة لاحد من الشخصيات، وعليها أيضاً تحريك المسيرة السردية لتلك الحيوات والحكايا بشكل متناسق نحو السياق الفني المطلوب والصحيح، حيث بدأت بعملية التعريف لحياة كل واحد منهم، وكذلك انتقلت الى الحبكة التي ارتبطت فيها خيوط السرد وتداخلت.
(كانت الهدية عبارة عن دمية خشبية، تلك التي كانت تجلبها الوالدات والجدات من رومانيا أو بلغاريا، وتمثل امرأة روسية بدينة ترتدي رداءً ملوناً وعصابة رأس حمراء، غالباً ما تأتي بأحجام مختلفة، لو استلمت دينا هذه الهدية في يوم آخر لما تأثرت كما اليوم فقد كانت تحت وطأة توتر شديد بسبب فشلها الدائم في الاستحواذ على اهتمام الأستاذ وإرجائها هذا في الغالب الى وزنها، فكانت هدية زياد – تلك الدمية البدينة-هي القشة التي قصمت ظهرها.) ص 67
وهكذا نجد الراوي ورغم قيامه بمهمته في سرد الأحداث، الا أنه يكون موجود في اغلب معالم سير العملية السردية، ليقدم رؤيته ويطرح رأيه ويفسر ويناقش ويتفاعل، وهكذا فهو حالة مهمة تساهم في تأجيج الأحداث وجعلها أكثر متعة وتشويق، وكذلك يكون شاهداً فاعلاً ومهماً في هذا النص:
(كيف يقضي هؤلاء الفتية يومهم، ليلهم، ما هي أحلامهم؟ لم يعد العراقيون يتنفسون الأوكسجين أسوة بباقي المخلوقات البشرية بل أصبحوا يستنشقون غبار الموت والبارود ليزفروا الدمع والوجع، والغريب في الأمر إنهم ما زالوا – حسب المقاييس العضوية-على قيد الحياة؟ نظرة واحدة إلى التلفاز الناطق أو حتى الصامت أو لحظة مرور بجانب سيارة تكسي يقرر صاحبها الاستماع إلى الراديو بصوت مرتفع، كانت كفيلة بضخ مجموعة من المفردات اللغوية الهجينة إلى العقول، إغتيال، تفجير، مفخخ، انبطاح، خيانة، أجندات خارجية، عندي وثائق دامغة، داعشي، حفيد فلان، وريث علان، لن نستسلم، لن نتنازل، سنرد الصاع صاعين، شهيد، قتيل، انتحاري، فصل عشائري، نفط، أقاليم.) ص 136
وهكذا تبلغ الأحداث ذروتها وتسير نحو اللإنفراج، بصمود وصبر وتعاون هذه الشلة التي وصلت الى الجامعة أثناء الانفجار ونجو منه بإعجوبة، ويحققوا النجاح بصبرهم وصمودهم، وقد استطاعوا أن يجعلوا من تلك التربة التي لا تصلح للنمو صالحة رغم كل الصعاب.
وأخيراً يتكشف لنا معالم الراوي، لنعرف أنه العراق، أنه التاريخ، الذي يسجل كل شاردة وواردة في هذا البلد:
(أنا الناحت للتاريخ على جدران الحقيقة، أنا المرتوي بالماء والماء، أنا المنبسط، المستوي، أنا ناي الحزن، وترنيمة الفرح، أنا عويل السواقي وقهقهة التلال، أنا من كتبت قصتي بسعفة نخلة وبماء الفرات، أنا الأب، انا سلالة الدموع ورقائم الوجع، أنا مهد الموت ولحد الولادة، سترحلون ويرحلون وأنا باق، ستولدون وتقبرون وأنا باق، ستبعثون وتنشرون وأنا – على حالي-تحاسبون فتعاقبون أو تؤجرون وأنا باق، إلى أن يدكني ربي بقدرته، أنا العراق ….أنا باق.)ص166
أما بنية العنونة، فقد جاءت منسجمة ومتن النص والثيمة والرؤية التي قدمتها الروائية، فصروحنا الخالدة لن تموت، والإنسان في هذا البلد لايمكن أن يتأثر بعواصف وأعاصير عاتية، وسيصبر وتمر حتماً، فبين الرصافة صرح أبي حنيفة النعمان وبعد عبور جسر الائمة يكون الصرح الكبير للامام الكاظم، وهما باقيان ما بقي الدهر، وأما الزبد فيذهب هباءاً، وهو يشير في ذلك الى طائفتين لايمكن أن يفرقهما هذا الاعصار الذي سيمر حتماً.
رواية (بين الرصافة والجسر) للروائية حنان المسعودي، تقدم لنا البذرة التي يجب أن تنمو في أرض صالحة، ورغم أن التربة الآن لا يمكن لها إستقبالها الا أن الصبر والصمود والتعاون والحب والمودة هو الذي يجعل منها تربة صالحة.
من إصدارات دار براء (طبع – نشر توزيع) بغداد – شارع المتنبي لعام 2018