تواصل “الصباح الجديد” نشر كتاب “ذكرياتي” للمناضل العراقي الكبير فاروق ملا مصطفى، ويعد هذا الكتاب الحلقة الثانية ضمن سلسلة تهدف الى استعادة تاريخ النضال السياسي اليساري في العراق خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، ويعد الأستاذ فاروق أحد الرموز اللافتة والمثابرة في مجال المعارضة السياسية للدكتاتورية والعمل من أجل عراق ديمقراطي متنور مزدهر.
وتعود معرفتنا بالأستاذ فاروق الى عقود طويلة منها سنوات العمل المشترك ولو عن بعد، في حين حفلت تلك العقود بلقاءات متعددة، منذ بداية مشاريعه الناجحة، عندما كنت مندوباً عن صحيفة الحياة اللندنية، وسمح لي الحظ أن أرافق خططه المبكرة لواحدة من ألمع التجارب الاقتصادية والتجارية في البلاد، والمتمثلة بتأسيس الشبكة الدولية للهاتف النقال التي تحولت الى شركة كبرى هي آسيا سيل وكان حلمه آنذاك أن يكون لكل مواطن في كردستان هاتف خاص به في وقت كانت فيه تجربة الهاتف فتية على المجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة وكنت قد أسهمت في نشر الروح المقدامة للأستاذ فاروق وجرأته التي ارتكزت الى تجربة ممتازة في مجال المشاريع المختلفة، بدءًا من صغيرها الى كبيرها، والتي انتهت الى اسهامات يذكرها كل مواطن في إقليم كردستان وخارج إقليم كردستان.
ومن المزايا المهمة التي اشتمل عليها نشاط الأستاذ فاروق، أنه حاز ثقة العالم الصناعي الامر الذي سمح له بالتوسع والانتشار الى قطاعات أخرى كبناء المستشفيات وانشاء جامعات طبية ومتخصصة وهو ما نحتاج إليه أشد الحاجة.
كما تميزت تجربة الأستاذ فاروق في انقاذه مشاريع كانت على وشك الاندثار، كمؤسسات ومعامل السمنت في الإقليم، الامر الذي أسهم في توفير فرص عمل لمئات المواطنين وتوظيف آخرين بمناصب لإدارتهم، في الوقت الذي كانت الدكتاتورية تعاصر شعبه وتهمل المدن والمؤسسات والبشر.
وفوق كل ذلك ارتفع فاروق الى الأعلى، بسلوكه الثوري الإنساني الذي عاد على العديد من اقرانه وأصدقائه ومواطنيه بالفائدة والدعم من دون أن تكون له منافع شخصية، او اهداف من قبيل نشر الدعاية الخاصة لشخصه ومؤسساته، وهذا انعكس أيضاً على الطبقة السياسية التي وجدت فيه داعماً مرموقاً ومعتمداً ومسهماً في المناسبات التي أتيحت له المشاركة فيها.
وإذ تنشر “الصباح الجديد” صفحات مشرفة لهذا المناضل، فلأنها تعد أنموذجاً للوطنية والمثابرة وحب الوطن والمواطنين.
ولا يمكن أن نتخيل مدينة السليمانية الآن بالذات، وهي المدينة التي أحبها وعشقها من دون أن نتذكر او يخطر في بالنا اسهامات فاروق وفضائله الكبيرة على مدينته، الأمر الذي يجعله موضع حب واحترام واسعين.
هذه الذكريات، انموذج للكفاح الذي أثمر أفضل ما يمكن أن يتخيله إنسان في مجال النضال الشاق والغابة السياسية المليئة بالألغام والامتحانات الإنسانية الكبيرة والقاسية.
ان تجربة الأستاذ فاروق تمنح القارئ بتفصيل ممتع نكهة الحياة والشرط البشري الذي كان عليه أن يرسمه لمجايليه وللأجيال المقبلة.
بهذه المناسبة نود أن نعبر عن امتنانا واحترامنا للتجارب التي مر بها الأستاذ فاروق ونأمل ان يشعر القارئ الكريم بالشيء نفسه.
الحلقة 8
حقائب الدم.. عودة قادة جناح (م.س) للحزب الديمقراطي إلى الحزب
حدث في منتصف الستينيات انشقاق واقتتال في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني نجم عنه انفصال جناح المكتب السياسي عن البارتي (الحزب الديمقراطي الكردستاني) استمر ذلك الصراع والنزاع الدموي مدة ولم يتوقف حتى قُبيل إعلان بيان الحادي عشر من آذار 1970.
تصالح الجناحان واختار جناح المكتب السياسي السلم مع الديمقراطي الكردستاني. وفقاً لبنود الاتفاقية رجع القادة المعروفون والبارزون لجناح المكتب السياسي الى مناطق قيادة الثورة.
استقروا فور عودتهم في قرية (قسري) ومنطقه (بابكر أوا رايات) ترددتُ إليهم كثيراً، كان هناك الأستاذ إبراهيم أحمد، ومام جلال، وعلي العسكري، وعمر دبابة، ونوشيروان مصطفى، والأخ حامد قادر المعروف بـ(حامد قه ره) الذي جاء معهم.
كان الأخ نوشيروان مصطفى في ذلك الوقت الأقرب إليّ بينهم، وتعود علاقتنا إلى مرحلتي الدراسة المتوسطة والثانوية في السليمانية. كنت قد التقيت سابقاً الأستاذ إبراهيم أحمد مرات عدة في بغداد، كان بينه وبين والدي وشائج صداقة وطيدة، وتحدث بفرح إليّ مراراً عن والدي وحسه القومي الكردي.
أما بالنسبة إلى علي العسكري وعمر دبابة فلم يسبق أن التقيت بهما كثيراً، بعد تلك السنوات ازدادت علاقتي معهما وبالأخص مع الأول. أما علاقتي بمام جلال فكان مام جلال في السليمانية عندما صدر أمر حكومي باعتقالي في العام 1968. أراد ابن عمي فؤاد ملا محمود، الكادر المتقدم في جناح المكتب السياسي والشخص المقرب إلى مام جلال أن ألتقيه عله يسعفني. بلغته شكري وعرفت أن تهمتي كبيرة لذا اضطررت إلى الاختفاء وممارسة النضال الثوري سرا. بعد ذلك تلاقينا في بيروت ومنذ الجلسة الأولى نمت بيننا صداقة حميمة ومحبة دافئة.
- * *
بدأت أتردد إليهم منذ عودتهم واستقرارهم في (قسري). دعوتهم إلى ناوكيلكان. أمضينا يوماً حتى المساء على ضفاف نهر جار أمام مقرنا. كنا قد بنينا سقيفة جميلة. تناول الغداء هناك وتطرقنا مع الرفيق إبراهيم علاوي وبعض الرفاق الآخرين والأصدقاء الى الأحاديث السياسية.
بعد مدة سافر الأخ نوشيروان إلى فيينا واستقر هناك. توطدت وترسخت علاقتي مع مام جلال يوماً بعد يوم. زرته مرات عدة قرب (ناوبردان) وسهرنا معاً ليالي كثيرة نتبادل الكلام، وتلذذت بكلامه اللطيف وأحاديثه عن تاريخ حياته السياسية والثقافية.
في مواضع أخرى لاحقة سأتحدث عن صداقتي مع مام جلال في أماكن وفترات مختلفة. ومنذ ما يربو على تسعة وأربعين عاماً حتى وقت كتابة هذه السطور تتعمق تلك المحبة. لم أجد لدى الآخرين من الصفات والخصال مثل تلك التي لمستها في مام جلال. كما صرت منذ ذلك الوقت صديقاً مقرباً إلى علي العسكري. مرة قال لي: فاروق، أود أن أحدثك بصراحة تامة. وقبل الدخول في صلب الموضوع أريد أن
تفهمني بصدق وقلب رائق، فلا أنا ضعيف حتى أعجز عن الإفصاح ولست أنت ذا سلطة هائلة حتى أخشى منك. هناك حديث عني تردده الألسن وأنا أروي حقيقته لتسجله للتاريخ: يقال إنني أسرت شيوعياً في واقعة في منطقة بمو عام 1963، وأطلقت النار في فمه، صدقني إنها حكاية ملفقة ولا صحة لها بتاتاً، وأقول لك إنني لست رجعياً، ففي سنوات إقامتنا ببغداد نشرتُ مقالات لي ومقالات ترجمتها تخص النهج الماركسي والاشتراكية في جريدة هاوكارى باسمي المستعار (شالاو).
محاولة لاغتيالي في 26/12/1971
في تلك الأيام أقبل أحد رفاقنا قائلاً أن قادر بيکە س يقول بلغوا الرفيق فاروق بأن ثمة هدية وصلته، قلت فوراً هيّا أسرع إليه وقل له أن لا يلمس أي شيء ريثما أصل. كانت المسافة بيننا وبين المقهى لا تتجاوز مئة أو مائة وخمسون متراً، هرعت بدوري إلى المقهى، في منتصف الطريق سمعت دوياً هائلاً ورأيت الدخان والنار يتعاليان في السماء. بعد مدة تبين أن المحاولة كانت تستهدفني.
لقي بعض الأشخاص مصرعهم في هذا الحادث وفقد البعض أبصارهم فيما أصيب آخرون بجروح بليغة وطفيفة. روى لنا الحاضرون أن قادر بیکه س قد قال، لأفتح الهدية المرسلة إلى كاك فاروق وأعرف ما فيها، انفصل رأسه عن جسمه لأنه كان الشخص الأقرب إلى المظروف الملغوم، وأصبح شهيداً لدرب تحرير هذا الشعب. وفَقَد الرفيق سامي فَيلي إحدى عينيه في الحادث.
وفي تلك الأيام أيضاً تم تفتيش سيارة في سيطرة برزيوه (به رزيوه)، وهي أول نقطة تفتيش لقوات البيشمركة على طريق راوندوز باتجاه مناطق كردستان المحررة، وصلتنا هوية سائقها لاحقاً. وجد المفتشون في صندوق سيارته حقيبة، فسألوا السائق عن وجهته ومقصده فأجابه انه شيوعي وذاهب إلى ناوكيلكان، فطلبوا منه أن يفتح الحقيبة، فلم يمتثل السائق لأمر البيشمركة فاضطر الأخير الى فتحها بنفسه، للأسف انفجرت الحقيبة وأودت فوراً بحياته، ولاذ الجاسوس الحكومي بالفرار وأدركه الآخرون وأردوه قتيلاً أدى تواجدنا في ناوكيلكان إلى خلق مشكلات مختلفة لنا وللثورة أيضاً. كانت ناوكيلكان تقع على الطريق الوحيد المؤدي إلى كَلاله وحاجي عمران وقرى وقصبات المنطقة، حيث تواجدت في أكثرها مقرات سياسية وعسكرية للثورة. في سنوات بيان 11 آذار، فتحت أبواب المنطقة على مصاريعها لمرور كل الناس ولكل من هبَّ ودب. من جانب يسَّر هذا الانفتاح المروري المجال لوصول رفاقنا إلينا ومن جانب أخر أصبح بإمكان العدو أن يصل ويتسرب إلينا بسهولة.
أما بالنسبة إلى الثورة فقد خلقت الطريق مشكلات عديدة لها مع حكومة البعث، فهم أي الحزب الديمقراطي الكردستاني في سلم ووئام مع الحكومة بل يتعاونون معها ولهم وزراء في حكومة بغداد وإدارات مدن كردستان، وفي الوقت نفسه فإن وجودنا وتمركز مقرنا على تلك الطريق الوحيدة خلق نزاعا ومشكلة لموقف الحكومة تجاه الثورة، لكوننا نعادي الحكومة ولنا فعالياتنا ونشاطاتنا ضد حكومة البعث في كردستان والعراق عامة، وحذرت الحكومة الحزب الديمقراطي الكردستاني من تلك الوضعية، وبلا شك كانت تطالبهم بوضع حد لفعالياتنا وتحركاتنا.
رداً على سياسة الترهيب والألغام المرسلة إلينا كنا نرد على هجمات الحكومة بالعديد من العمليات والفعاليات الثورية حسب الإمكانيات المتوفرة لدينا، بخاصة في بغداد إذ قمنا بهجمات على مقراتها العلنية والسرية بالرصاص والقنابل، وألحقنا بها أضراراً جسيمة، وحاولنا توسيع رقع ومساحات فعالياتنا بخاصة في أرياف وسط وجنوب العراق والتهيؤ للكفاح المسلح، وجرت بيننا وبين قوات الحكومة اشتباكات ومصادمات مسلحة عدة، وبالأخص في أرياف الحلة والديوانية والبصرة.
التدريب على أسلحة مختلفة
كانت تصل ناوكيلكان باستمرار أعداد من الرفاق الهاربين أو من الذين قدموا إلى مقر الحزب للشؤون التنظيمية والانضمام إلى البيشمركة من بغداد وبقية المحافظات العراقية الأخرى. وكان بعضهم أعضاء حزبيون انقطعت علاقاتهم بتنظيماتهم بسبب حملات البعث على الشيوعيين، لأن أغلب التنظيمات تعرضت للضربات وزج بعدد كبير من الرفاق في غياهب معتقلات البعث.
ظهر من بين هؤلاء الهاربين عدد من مجهولي الهوية، إذ لم يعرفهم الرفاق المتقدمون، فقد حاولت أجهزة البعث إرسال الجواسيس من كل حدب وصوب لزرعهم بيننا، وكان الخوف والرعب وراء سقوط ومجيء بعضهم، انقسموا إلى ضربين: ضرب أفشي بالحقائق والأسرار لدينا، وآخر أخفي نفسه لفرصة مواتية كي يلعب دوراً خبيثاً ومعادياً ضدنا.
في تلك الظروف المعقدة أشاعوا برعاية العضو القيادي خضر سيد سلمان (أبو جعفر)، أقاويل وتحركات منافية لنهج الحزب والعلاقات الودية، قامت علـى أن قيـادة فرع كردستان لها ارتباطات خفية بالحزب الديمقراطي الكردستاني.
عقدنا نحن من الرفاق الكرد والعرب أكثر من مرة اجتماعات علنية عامة معهم وطلبنا منهم الكف عن ترويج مثل هذه الأقاويل والتصورات الخاطئة، لكنهم أعطونا الأذن الصماء ولم يغيروا سلوكهم بأي شكل من الأشكال. كان لـ (أبو جعفر) مسؤولياته عن تنظيمات بغداد والوسط ولعب دوراً تخريبياً في غاية الوضوح. كان كردياً من أهالي زاخو وذا حياة حزبية مديدة ونضال طويل، لكن أفعاله وتصرفاته أثارت الريبة حول ارتباطه بأجهزة الحكومة. وما زاد من شكنا هو تغيبه وتواريه عن الأنظار بين حين وآخر وبرر ذلك بانشغاله بتنظيمات الحزب في بغداد. وصادف أن كان الرفيق ابراهيم علاوي خارج الوطن في تلك الأوقات، بهدف زيارة الصين واليمن وسوريا لترسيخ الروابط السياسية والأممية للحزب. طلب الرفاق من مثيري الشغب هؤلاء أن يخرجوا من مقر ناوكيلكان، فابتنوا سقائف (كبرات) على النهر قريبا من القرية. حرصنا على إبقاء العلاقات معهم واستطعنا أن نعيد بعضهم إلينا بواسطة تزويدهم بالأسلحة والذخائر والمؤن، ومع ذلك دام انفصالهم حتى عودة الرفيق إبراهيم علاوي من الخارج.
ما أثار انتباهنا واستغرابنا هو استشهاد مجموعة من رفاقنا في الفرات الأوسط تزامناً مع محاولة الانشقاق تلك.
بصفتي مسؤول علاقات الحزب مع الحزب الديمقراطي الكردستاني حضرت جلسة أبلغني فيها الأخ مسعود البارزاني أن لديهم معلومات وافية تؤكد أن بيننا شخصاً قيادياً متقدماً قد تم تجنيده سراً وأصبح رجلاً للحكومة. لما عاد الرفيق إبراهيم أطلعته على الخبر فقال لي وما رأيك أنت؟ قلت له: كنت أشك في تحركات هذا الرجل قبل أن يطلعنا الأخ مسعود على تلك المعلومات.
نجم خلاف كبير مع (أبو جعفر) بسبب قيامه بإرسال عدد كبير من الأسلحة التي عانينا صعوبات بالغة في الحصول عليها، إلى الفرات الأوسط بلا وجود أي خطة، فأدى بالنتيجة إلى فقدان الأسلحة واختفاء أثر ومصير نخبة من رفاقنا المناضلين.
من جانب آخر، تطورت واشتدت مؤامرات وهجمات الحكومة علينا وعلى مقر ناوكيلكان وأصبحنا نعاني من مخاطر إرسال مشبوهين كثر، لذا قررنا تقل مقرنا الرئيس مع إبقاء ناوكيلكان مقراً مصغراً. وفي جو حزين وكئيب نقلنا مقرنا إلى قرية كويزان (گويزان)، قرية كانت على الطريق الترابي بين (كلاله و شيركاوا) باتجاه بارزان.
وحصلنا في قرية (كويزان) على بضع دور وزرائب للحيوانات، بذلنا جهداً جهيداً لتنظفيها إلا إننا وجدناها مليئة بالقمل والبرغوث ورائحة روث البهائم وفضلات الخيول.
حين دخلنا قرية (كويزان) عولج موضوع انشقاق ناوكيلكان. في أعالي قرية (دارالسلام) وأسفل قرية (كويزان) بدأنا ببناء قرية لنا بين تلك الجبال بعيداً عن القرى، أنهينا العمل في وقت قصير معتمدين على جهودنا وسواعدنا ومهاراتنا في الأمور الهندسية. كان جارنا الوحيد من بين القرويين هو العم أحمد الذي أقام مع زوجته وابنته الوحيدة وسط مزرعته في أعالي قريتنا.
اشتمل مقرنا، فضلاً عن قاعات عدة وغرفة كبيرة وأخرى صغيرة، علـى غرفة للمطبعة، وأخرى للحمام وبضعة مرافق صحية ومخبز ومطبخ وغرفة أشبه بمقهى.
استأجرنا قطعة أرض زراعية ذات مساحات واسعة على غرار ما كان لنا في ناوكيلكان، وانهمك مسؤول المقر الإداري الرفيق المرحوم (عه زه ره ش) في الأمور الزراعية بشتى أنواعها في مرابعنا الجديدة عاونه في ذلك رفاق آخرون.
طرأ تغير واضح على حياتنا ومكان استراحتنا وعاودنا نشاطنا وانصرفنا لتنظيم أمورنا. ابتعدنا عن الطريق العام، وكان في أعلى موقعنا ومقرنا درب وحيد ترابي يمر من هناك إلى كلاله وبارزان، كنا نستقبل رفاق التنظيمات ونمور ونضج بالحركة ونشاط أشبه بخلايا النحل.
أدت لجان محلية أربيل وبادينان وكركوك والسليمانية وخانقين المهام الحزبية والجماهيرية بشكل أكثر تماسكا من ذي قبل، وَقِس عليها نشاطات رفاق مناطق بغداد والوسط وجنوب العراق.
وضعنا حضور سكرتير الحزب في المقر ومراجعة الخلافات المختلقة في السابق أمام مسؤوليات كثيرة. بعد تحقيقات دقيقة عن أصل الوثائق والشهود واعتراف بعض الخونة تيسر لنا تبديد الشكوك للرد على بعض قادة اللجنة المركزية الذين جعلوا من أنفسهم محامين يدافعون بدعاياتهم وكلامهم وكتاباتهم عن أبي جعفر يسكبون عليه الدموع. سأكتب هنا الحقيقة: حين قبضنا على جاسوس كبير من جواسيس حكومة البعث اختفى أبو جعفر على الفور واتضح انه هرب ولاذ بالحزب الديمقراطي الكردستاني للحفاظ عليه. طلبنا من الحزب الديمقراطي تسليمه إلينا لنجري معه بعض التحقيق وقلنا إنكم أبلغتمونا آنفاً أن له ارتباطات سرية وخفية بالحكومة العراقية، فقالوا في جوابهم، هذا صحيح، لكنه التجأ إلينا وبوسعكم أن تحققوا معه لدينا وبحضورنا. أبينا ذلك ولم نقتنع بكلامهم وكان سببنا الرئيسي هو ألا ندع ونسمح للباراستن (جهاز استخبارات الحزب الديمقراطي الكردستاني) بالتغلغل في صفوفنا من خلال ما سيطلع عليه من أسرار عملنا الحزبي في حال إجراء التحقيق بوجودهم ومقرهم، وعليه ظل محتجزاً لدى الحزب الديمقراطي الكردستاني. في تلك الأيام كانت اللجنة المركزية في غمرة الحوار والدخول إلى الوزارات والجبهة
الوطنية للبعث. وقد انكشف فيما بعد أن (أبو جعفر) قد اتصل بهم في (برسيرين) حسبما ذكره الأخ كريم أحمد في مذكراته، وجاء متخفياً إليهم أو إلى الحكومة في صدر سيارة (بيكاب) لنقل المرمر عبر طريق (كلاله) وانحدر نحو جهة الجنوب. وكان لابد من أن يمر أمام مقرنا الصغير الذي أبقيناه في ناوكيلكان. وكان يُخفي بيشماغه الطرف الأعلى من وجهه كيلا يراه ويعرفه الرفاق، لكنهم شاهدوه ولاحقوه بدون أي إيعاز رسمي ومن دون أية أوامر مسبقة من الحزب بذلك وأطلقوا عليه الرصاص قرب قرية برسيرين مركز ومقر اللجنة المركزية. ولم يكن دافع الرفاق الموجودين وراء ذلك سوى الحماس والحسرة على استشهاد بعض رفاقنا في منطقة الحلة والديوانية، وتركز الشك في مسؤولية (أبو جعفر) وضلوعه في ذلك، بدليل أنه لجأ إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، بصفته السلطة الرسمية الحاكمة في المنطقة، فور إلقائنا القبض على الجاسوس البعثي الكبير المشار إليه.
أسهبت في سرد هذا الموضوع كرد على الذين نشروا الحادث وتطرقوا إليه على نحو آخر بعيد عن الصحة (وأغلبهم قادة في اللجنة المركزية)، الذين لم يولوا أي اهتمام بمقتل عشرات الرفاق على يد البعث وأجهزته القمعية بقدر انصرافهم إلى تناول ذاك الموضوع، لأنهم كانوا منتشين بعرس اتفاقهم مع البعث.
ومن أجل الحقيقة التاريخية أذكر أن الرفيق إبراهيم علاوي كان أشدنا وأكثرنا حزنا على ذلك القتل غير المدعوم بأي قرار. ولم يهدأ له بال إلا بعد عام 2003 وسقوط صدام، حين اطلع على ملفات الأمن التي ثبتت صحة كافة الشكوك بخصوص (أبو جعفر).
مقابل (أبو جعفر) قبض الحزب الديمقراطي الكردستاني على رفيقين لنا ولم يكن أحدهما على علم بالحادث بتاتاً وصار ضحية حكم عاجل ومتسرع للحزب الديمقراطي الكردستاني وأقدموا على هذا الفعل بلا أي اعتبار لعلاقاتنا معهم فأعدموا مع الأسف. ألف تحية إلى روح الشهيد رشيد مخموري وكادرنا الحزبي المتقدم الرفيق حسين (عبد الرزاق).
ما فعله الحزب الديمقراطي الكردستاني كان بعيداً عن العدالة وتقدير علاقة حزبين متعاونين معاً، حيث قاموا بإعدامهما بدون إجراء أي تحقيق معهما وبـدون إعلامنا وإخبارنا قتلوا هذين الرفيقين ولم يكن لأحدهما، كما أسلفت، أي علمٍ بالموضوع لا من قريب ولا من بعيد.
الطباعة والمطبعة
وأول لقائي مع جلال
كان لقائي وعلاقتي بمام جلال في عام 1968، وجدته أنساناً ذو أفق مفتوح ورائق، رجل مثقف ومحب للأدب لا بل أديب وكاتب لامع، سياسي متواضع بلا تكير وترقع.
أصبح مام جلال صديقاً مقرباً لمجموعة من الشخصيات الفكرية والسياسية من مناضلي إيران عملوا في منظمة ماركسية لينينية ملتزمة بالخط الفكري والسياسي لماو تسي تونغ.
وعن طريقه تقربت إليهم ومن تنظيمهم: المنظمة الثورية لإيران، وكان الدكتور جلال والدكتور إبراهيم وإسماعيل من قادتها البارزين. كان الدكتور جلال طبيباً إسمه الحقيقي كورش لاشايي. حملت صحيفتهم اسم (ستار ه ى سورخ) أي النجمة الحمراء وبدا عليها طابع الفكر الماركسي اللينيني واضحاً.
على الرغم من النتائج والعواقب المحزنة لحياة بعض هؤلاء المناضلين الشجعان فإن ذلك ليس دليلاً على خطأ الخط الذي انتهجوه، كما أن النصر أو تسنم زمام الحكم ليس دليلاً على صحة أي حركة وتقييمها تقييما صائباً ونابعاً من وجدان حي. كان دورهم في تلك الفترة وعملهم الجدي هو لتطوير الوعي والثقافة الطبقية والشعبية واقعياً وبشكل سليم وواضح. المهم هو مدى قدرتهم في تلك المرحلة لدفع منظمتهم وتنظيمهم إلى الأمام على نحوٍ واضحٍ وبارز، ومقدار الخدمة التي قدموها إلى قافلة ومسيرة نضال وكفاح شعبهم.
- * *
كان اجتماعي الرسمي الأول مع هؤلاء الرفاق مُمَثِلاً عن الحزب الشيوعي العراقي- القيادة المركزية، في كركوك في بيت رفيقي الشهيد المحامي فتح الله عزت واستغرق أياماً بلياليها. كان بيت الرفيق فتح الله في حي إمام قاسم، وكان للدار بابين يطل كل واحد منهما على زقاقين مختلفين. وتألف وفد رفاق المنظمة الثورية من السادة الدكتور جلال والدكتور إبراهيم وإسماعيل.
تناولنا بالتفصيل العلاقة بين الحزبين والحركة الشيوعية في العراق وإيران.
تقاربت آراؤنا بصدد المخاوف من التحريفية العالمية الكبيرة على الحركة الشيوعية والاشتراكية في العالم، وحول تقييد حرية الحزب والمنظمات الحزبية في العالم وربطها بمركز انحصر في الحزب الشيوعي السوفيتي، على غرار ما وجد لدى الحزب الشيوعي العراقي الذي أصبح في ارتباطاته وعلاقاته تابعا للنهج السوفيتي التحريفي بعيدا عن النهج (الماركسي- اللينيني)، وراح بمجاراته المركز وإطاعته العمياء لتنفيذ ما يصدر منه من الأوامر والنصائح يلحق الضرر الكبير بالحركة الشيوعية المحلية والعالمية، ومن أبرز ما أدى إليه هذا النهج انهيار أنظمة أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، والخواء الفكري والتخبط السياسي الذي تعيشه تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي وحزب توده الإيراني والأحزاب المماثلة على صعيد الحركة الشيوعية العالمية.
قادة المنظمة الثورية الإيرانية كانوا أصدقاء مام جلال كانوا يقدرونه ويشكرونه لدعمه وعونه الكثير للجبهة. تحدثنا أيضا عن طباعتنا ومطبوعاتنا، توفرت لديهم أجهزة جيدة إذا قيست بمعايير ذلك الزمان.
أخيراً تبين لي أنهم تحدثوا مع مام جلال حول اجتماعنا وأبـدوا لديه ارتياحهم بالتعرف علينا وتطرقوا إلى الحديث حول تزويدنا بمطبعة.