يوسف عبود جويعد
تُعد رواية (منفى الزرازير) للروائي خالد الوادي، من النصوص السردية التي تحمل من عناصر التغيير والتجريب والتحديث الكثير، ويكمن ذلك في إنسجام النص وتوحده من حيث الإستخدام الامثل لأدوات فن صناعة الرواية، حتى غدت طيعة مرنة في متناول الروائي، وإستطاع أن يتحكم بها حسب ما تقتضيه ضرورات الإسلوب الذي إتخذه وزاوية النظر التي إختارها، فأخفى ما يريد إخفاءه وأظهر ما يريد،حيث نكتشف أن شخصية المعاق بطل هذا النص بدون إسم وهو متعمد في ذلك لكي يأخذ النص طابع العمومية والشمول حتى يحس المتلقي أن هذه الشخصية تنتمي للبلد بشكل عام دون أن تكون منتمية لمنطقة أو محافظة او مكان معين، وهذا يساهم في جعل النص مفتوح على محيطه أكثر ويساعد المتلقي بالسياحة في هذه الحرية التي إتيحت له، كون أن الأسماء وبالاخص في بلدنا يمكن أن نعرف من خلالها مكان تواجدها حال سماعنا الأسم دون الحاجة الى السؤال، والامر معروف لدى الجميع ولايحتاج الى تفسير، الأمر الآخر هو المكان فقد أخفى معالمه التي يجب أن تنكشف، حيث جعل تلك الامكنة التي إنضوت في هذا النص عامة أيضاً ولم تظهر لنا هويتها بشكل واضح، مثل الصحراء، الجنوب، دول الجوار، وغيرها من الاماكن التي عمد الروائي الى إخفاء ملامحها الاساسية وإظهار ما يمكن إظهاره لضرورات تتعلق بالسياق الفني.. وهكذا فإن تناغم اللغة السردية وإنسجامها مع تلك الادوات وغيرها،جعلها تنساب هادئة شفافة شعرية حسية بإيقاع متزن وصلت حد السحر السردي مما يجعل المتلقي يلتصق بالنص ويتابعه ويتفاعل معه بذات الهدوء والشفافية، رغم التقلبات التي تحدث في النص من جراء الاحداث المحتدمة والمتواترة والمشحونة بالمفاجآت الا أنها تصل اليه وفق هذا التدفق، حيث نكتشف أن فضاءاً آخر وجديد يجتاح النص بهذه التركيبة السردية لنرى المسيرة السردية تتحرك وفق سياقها الفني، لكنها تدخل وجدان وذهن المتلقي من باب آخر هو الذي سوف يهيمن على حواسه ليكتشف الاحداث أكثر وقعاً وتأثيراً وسحراً وهي على هذا المنوال، أي أن الاحداث لا تنتقل إلينا كما إعتدنا أن نتابعها في بقية النصوص الروائية،لنعيشها ونتأثر بالشحنة المباشرة ، وإنما تمر بهذا الفضاء وتتفاعل معه وتكتسي سماته وصفاته وتقنياته وعناصره، لترتدي حلتها التي هيأتها هذه التركيبة الغريبة لتصل لنا شكلاً آخر، كون الاحداث يحول بينها وبيننا هذا الغطاء الرائق فلا يكون تفاعل الاحداث بشكل مباشر هو الطاغي والمهيمن، وانما تلك المعالجات الفنية التي وظفت في متن النص هي الطاغية:
( مع الوقت تعلمت كيف أعيش الحقيقة واروض نفسي على تقبلها،هكذا أصبحت كما تقول أمي بساق واحدة. منذ اللحظة التي تنفست فيها الحياة حين ولدت كنا نعيش في قرية بأقصى الجنوب.) ص 22
ولكي يحافظ الروائي على هذا النسق الفني الذي إتخذه بالمسيرة السردية لهذا النص، فأنه وجد أن يقوم بمهمة إدارة دفة الأحداث بطل هذا النص، الذي ولد بساق واحدة، وكانت تلك اولى واقسى معاناته، لنعيش تفاصيل كبيرة وواسعة من حياته في طفولته وخلال فترة مراهقته، ونكتشف ما يحب، فهو يعشق حد الوله الفنانة (سعاد حسني) ويتمنى أن تكون من تشاركه حياته شبيهة لها، وكذلك يحب العالم الغرائبي الساحر، ويحب رؤية الجن ويحس في ذلك إكتشاف خطير وممتع، وقد حدث وأن رأى جنية جميلة في أحد بساتين الجنوب وظلت عالقة في ذهنه، وهو شخصية مثار حب وأعجاب كل من رآه:
( جذبتني حكاية يتداولها الناس هنا حتى اليوم، حكاية تتعلق بجنية تسكن هذه الارجاء منذ اللحظة التي تعرف الناس فيها على هذه الارض البعيدة، الحقيقة التي لا تفارق مخيلتي تكمن باللحظة التي رأيت بها ذلك الكائن الرقيق، لحظة لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي ما حييت، ما زال عبق شعرها المحير يداهمني كلما حاصرتني العزلة، بالحقيقة تستفزني الغربة أحيانا في معاودة البحث عنها، لكني أتراجع وأشعر بالخيبة، القلقة على الدوام، وربما انتم من يخفف وطأة الحصار المفروض عليّ، أنتم أجمل شيء في حياتي) ص 59
كانت تلك المحاورة، بعد تفاصيل كبيرة خضنا غمارها مع بطل هذا النص، الذي يستدرجنا بهذا السحر السردي المعبق بذاته المأزومة، حيث نكون مع اسرته وعن عمله، ثم الالتقاء بصديقه الذي ينتمي لحزب معارض للسلطة (شاكر) الذي كان سبب كبير في إنقلاب حياته، حيث عاش في خناق رهيب ورعب بسبب مراقبة السلطة له، واستدعائه لاكثر من مرة،والتعرض للاعتقال، وعندما وجد الامر اصبح لايطاق، استطاع من خلال احد اصدقائه العمل في شركة أجنبية في الصحراء، هرباً من هذه الحياة، التي تعتبر نقلة كبير في مسار الاحداث وانتعاشها كوننا سنتعرف على شخصيات تنتمي لهذا البلد الاجنبي، لأننا سنجد تفاصيل لعادات وسلوك وافكار وشخصيات هذا البلد، حيث نكون ما (ساشو) الذي حدث زوجته عن شخصية بطل النص وهي قادمة لرؤيته، الا أنها مصابة بحالة طمث مستمر، وتبحث عن علاج شعبي ممكن أن يشفيها (خرزه) وتلك الخرزة موجودة لدى والدة المعاق، الذي يذهب لامه ويجلبها لها فتشفى، وتوطدت العلاقة ليكون هذا الرجل الذي يعيش بساق واحدة، جزء من اسرة العمل.
وقد إختار الروائي بنية العنونة لإرتباطها بشكل متصل مع أحداث النص وثيماته، فتلك الطيور المهاجرة التي تهاجر في مواسم معينة تبحث عن منفى جديد، إنما هي بذلك تبحث عن نهايتها:
( في تلك اللحظة أمرت بالصمت، كانت الزرازير حذرة، تتلفت على الدوام، تخطو خطوات قلقة، تبتعد ثم تقترب نحو الشباك المعبئة ببذور القمح، كان الوقت يمضي هكذا، حذراً، خائفاً.. حتى تقدم زرزور وسط الشباك وراح يلتقط حبات القمح بسرعة، أنه بمثابة الشجاع والمقتحم الذي شجع السرب بأكمله على إقتحام تلك البقعة الشهية الطافحة بالطعام، وما ان تهافتت الزرازير بشكل جنوني، أمر احدهم رفيقه بسحب الحبال المهيئة أصلاً لغرض الصيد) ص 77
وتتخلل الاحداث بعض المفاجآت المهمة التي تساهم في شدها وقوة انسيابها، منها جعل افعى هجمت عليه ان تكون اليفة وتأتي اليه ليطعمها، فلقد حدث عندما رآها متوثبة للانقضاض عليه امسك سمكة ورماها اليها، فما كان من الافعى ان هدأت وبدأت تلتهم السمكة، وصارت تأتيه بين حين وآخر ليزودها بالطعام الامر الذي زاد غرابة فريق العمل بهذه الشركة ومن بينهم تاتيانا التي احبته فيما، وبعد القاء القبض على شاكر والحكم عليه بالاعدام، يهرب من السجن فتزداد المراقبة على بطل هذا النص، وتعود المتابعة والمضايقة والاسئلة، فيضيق بهذه الارض ويقرر الهجرة ولكن لبلد بعيد، تساعده في ذلك حبيبته، ونعيش تفاصيل اخرى ولون اخر من الوان السرد هي الغربة، وتلك التي احتوت الكثير من الذين هربوا من جحيم البلد، وهكذا نحس أن متن النص يتلون بالوان عديدة من التفاعل من البيت والاسرة والبيئة، الى الصحراء، ثم الهرب من بلاده برمتها، وهذا دليل انه يحاول أن يبقى يواجه الطاغوت الا انه يحس بأنه اكبر منه، ونعيش تفاصيل الرحيل في شاحنة استغرقت ثمانية ايام، وهو مختفي في احد زواياها، وهكذا يلتقي بتانيانا، ويسكن الغربة الى أن يسقط الطاغوت وتتغير معالم الحياة، فيشعر بشوق للرغبة بعد ان شاهد ان شاكر استلم وزارة المعارف، ويلتقي فيه فيخيب امله فيه كونه لم يعد شاكر الذي يحمل المثل والمبادئ، أنه شخص آخر يتحين الفرص من اجل الثر اء، فيتركه ويعود لانشاء مسرح للمعاقين يساهم في بناء الانسان من جديد
( لكن الخسارة كانت الشجرة التي جفت مع الوقت وتحولت الى عمود خشبي يابس، ماتت الشجرة، ومع موتها عاد الذباب ليجتاح بيتنا من جديد، والشمس ايضاً احتلت المكان بقوة وحولته الى جحيم) ص 260
وهكذا قدم لنا الروائي خالد الوادي في روايته ( منفى الزرازير) لون آخر من الوان السرد بإسلوب ينم على وعي كبير بفن صناعة الرواية
من اصدارات دار لارسا للطباعة والنشر والتوزيع لعام 2019