لطالما أحسسنا ببغداد وهي تسحب انفاسها بصعوبة وكأنها مصابة بنوبة من الربو ، أو ضيق في التنفس ، ونشعر بها ، أيضا ، إنْ استرخت ، وتنفست الصعداء ، في حالة ارتياح عميق ، فعلى مدى خمسة عشر عاما ، كانت الكتل الكونكريتية الضخمة ، تجثم على صدر ، بغداد ، مانعة إياها من التنفس ، وكم حاولنا ان نتجاهل تلك الكتل الخانقة ، لنتنفس بهدوء ، بعيدا عن الكونكريت الصارم الذي يخنق مدينتنا الجميلة ، ولكن عبثا ، كنا نحاول ، فلا تنفس ، ولا اوكسجين نقي ، مادامت ، تلك الصبات تلقي بحالها فوق صدر بغداد
مضت السنون ، وازدادت معها حالة ضيق التنفس ، بسبب تزايد واتساع رقعة تلك الكتل المرعبة ، وكلما حلّ عام ، واستبشرنا خيرا ، بزوال الصبّات ، مايلبث العام ان يلحق بسابقيه ، من دون أي ضوء يلوح في الأفق ، .. كانت ثمة محاولات في سنوات سابقة ، ولكنها كانت خجولة ، اذ سرعان ماتتراجع الحكومة عن قرار رفع صبة هنا أو جدار هناك ، نتيجة التهديدات الأمنية ، التي لم توقفها الكتل الكونكريتية ، كما كنا نتصور ، بقدر ما أسهمت تلك الكتل في تقطيع أوصال العاصمة ، وإحالتها الى اشلاء مبعثرة ، وكأن كل شِلو منها يعود لجسد ما .. ولكن ماكان لنا بد ، الا ان نرضى بالواقع ، في ظل وضع امني مجنون ، اذ كان شبح الموت يخيم في الأجواء ،مثل انتشار الكتل الكونكريتية في كل مكان ..ولأن دوام الحال من المحال ، كما يقولون ، ولأن بغداد مدينة حيّة ، فقد نفضت الغبار عن وجهها ، وأزالت عنه الكلح والسواد ، وخلعت ثوب الحزن ، وتسامت على جراحاتها ، لتعود مثل طائر العنقاء .. فبعد صبر طويل ، وإذ شهد المشهد الأمني استقراراً وهدوءًا ، جاء القرار الحكومي ، برفع جميع الصبات الجاثمة على صدر بغداد ، ففي بحر اشهر معدودات ، تلاشت تلك الكتل الهائلة ، وكأنها لم تكن موجودة ، فظهرت بغداد على حقيقتها ، التي نسينا بعضها نتيجة حجبها عنا ، حتى اننا في الايام الاولى لزوال الصبات ، كنا نضل طريقنا الى بعض الأماكن التي اعتدنا تمترسها خلف جُدر عالية ،.. كان العمل يجري ليلا ، ومع إطلالة كل صباح ، نلمس تغييرا في شوارعنا التي كانت تختنق بحركتنا ، لانها كانت مختنقة من كل صوب ، أما وقد رُفعت الكتل الصماء الخرساء ، بدت الشوارع ، فرحة ، وهي تفتح أذرعها من دون ضجر ، فالحركة باتت اكثر مرونة ، والزحام الذي كان يزرع فينا الخيبة ، لم يعد كما كان .. ولم يتوقف الحال عند هذا الحد ، إنما امتدت الرافعات ، لتحطم أسوار «المنطقة الخضراء» التي طالما استفزت مشاعر العاصمة ، لانها كانت تشبه حجرا كؤداً ، يشل الحركة في جانبي المدينة ، والأنظار باتت تتجه اليوم ، نحو طريق المطار ، وبدأت الأصوات تعلو مطالبة بفتح الطريق أمام المواطنين ، فقد ، امست بغداد كلها خضراء ، واخضرارها هذا سيمنحها المزيد من الهواء النقي المشبع بالاوكسجين ، لكي تتنفس بهدوء وبعمق ، مالئة رئتيها بهوائها العذب .
ولكن يبقى السؤال العريض شاخصا أمام الجميع ؛ هل ان رفع الكتل الكونكريتية ، يمثل الهدف والمبتغى ؟ .. وهل ان جل حلم بغداد وابنائها ينتهي هنا بهذه النقطة ؟.. كلا أبداً ، فبغداد تحتاج الكثير ،من الجهد والمال المؤطر بمحبتها والرغبة في خدمتها ، بغداد ، تحتاج الى شوارع جديدة نظيفة ، عريضة وجميلة ، بغداد تحتاج الى شبكة كهرباء حديثة ، بدلا من هذه الشبكة المتهالكة ، بغداد تحتاج الى التخلص من المولدات وإسلاكها المثيرة للقرف ، بغداد يحتاج الى ازالة العشوائيات من أحشائها التي باتت تشبه الدمامل الدامية في الجسد الجميل ، بغداد ، تحتاج الى وسائط نقل حديثة ، قطارات معلقة ، باصات حديثة .. إلخ ، بغداد تحتاج الى ابراج وناطحات سحاب لتعزيز موقعها التجاري، بغداد تحتاج الى ان تنفتح على اطرافها في بناء احياء سكنية جديدة لفك الاختناق الحاصل فيها نتيجة أزمة السكن .. بغداد ، تحتاج الى ، والى ، والى .. ولكن ، مرة اخرى ، يأتي السؤال ؛ هل بالإمكان تحقيق هذه الأحلام ، أم انها تبقى مجرد اضغاث ، نصحو لنجدها وقد ذهبت ادراج الرياح ؟!..
نعم هي احلام ، ولكنها من النوع القابل للتطبيق ، فما ذكرناه ، حققته وأكثر منه عواصم اخرى ، لا ترقى الى مستوى بغداد ، إنما فقط امتلكوا الإرادة ، وقوة القرار ، فمضوا في تحقيق الأحلام ، وهذا ما نحتاج اليه ، هنا في بغداد ، الإرادة ، والقدرة على القرار ، بعيدا عن الأهواء والسياسات ، والأجندات .. ولتكن عملية رفع الصبات ، بداية باتجاه ، تحقيق احلام بغداد ، التي كشفت عن وجهها الجميل ، وعادت تتنفس من جديد ..
عبدالزهرة محمد الهنداوي