ربما يعجب البعض من حال المعارضين الذين ينتقلون إلى السلطة، بعد طول نصب، وتشريد، ونفي، وحرمان. فينقلبون على الواقع، ويقطعون الصلة بالماضي، ويبدأون في جني ثمار معاناتهم المرة، لحظة انتصار الثورة.
مثل هذه الانعطافة ليست جديدة، فقد تكررت منذ فجر التأريخ حتى يومنا هذا. بل إن بعضها قاد إلى امبراطوريات جائرة مثل الثورة الفرنسية، واستحال بعضها الآخر إلى ديكتاتوريات تقليدية مثل الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشرقية!
في كل هذه البقاع شعر الناس بالإحباط لأن من كانوا يتوسمون فيهم النزاهة والإحساس العالي بالمسؤولية باتوا ميالين للدعة، متقلبين في الترف. ولم يعد أداؤهم مرضياً، فهم في المعارضة شئ، وفي الحكم شئ آخر.
في عام 1966 نشر شاب فرنسي اسمه روجيه دوبريه كتاباً أسماه «ثورة في الثورة» تحدث فيه عن مستقبل الحركات الثورية في العالم، وكيف انتهت إلى أنظمة تقليدية، تحمل ذات العلل والأمراض التي حملها أسلافهم من قبل.
دوبريه هذا كان يسارياً من طراز خاص. غادر بلاده قاصداً كوبا، ثم التحق بالثائر الأرجنتيني أرنستو شي جيفارا في جبال بوليفيا. ولما هزمت الثورة هناك ألقي القبض عليه وأودع السجن أربعة أعوام كاملة. فهو إذن ثائر أممي، عمل على إذكاء الروح النضالية في أكثر من مكان في العالم. وامتلك الخبرة التي أهلته للحكم على الأمور.
على أن هناك من يفرق بين الثورة والنظام. فالأولى تقوم على أكتاف أناس يتقدون حماسة، ويتعالون على الجراح. أما الثاني فيبنى بسواعد من يجنحون للتأني والحنكة والمناورة. وبناءً على ذلك تتوقف الثورة، وتخمد جذوتها، ولا تلبث أن تتخلى عن أهدافها. فالمعارضة من أجل المعارضة لا تتفق مع عقل، ولا تستقيم مع منطق.
بل إن كثيراً من الثوريين الكبار الذين ربحوا المعركة، وانتقلوا إلى موقع السلطة، لم يحالفهم التوفيق في مهمتهم الجديدة. فالمعارضة رغم تضحياتها الجسيمة أسهل بكثير من إدارة السلطة. لأن الأخيرة تتطلب قدرات عالية، وقرارات حاسمة، وخبرات هائلة.
ثمة من يعتقد أن هناك ثورة واحدة غير قابلة للتحول إلى سلطة راكدة، أو نظام تقليدي. أي أنها تكبر وتتطور كلما طال عليها الزمن. وهي ثورة العلوم التي تنتج تقنيات جديدة في كل مرة. هذه الثورة لا تجمد في زاوية ما، بل تقود إلى ثورات أخرى، بسبب التراكم المعرفي، والمران الطويل.
مثل هذه الثورة هي الحدث الأهم الذي يستحق أن يطلق عليه هذا الاسم، أما ما سواها فهي حركات سياسية ذات طابع أيديولوجي، تخوض فيما بينها صراعاً على النفوذ، أو نزاعاً على المبادئ، لكنها سرعان ما تجعل السلطة هدفها الأول، والاستئثار بالمنصب غايتها الكبرى! وليس في هذا الأمر ما يثير الاستغراب، فهذه هي طبيعة الناس، في كل مكان وزمان. وليس العرب أو العراقيون وحدهم، المتفردين في هذا المجال.
محمد زكي ابراهيم