علوان السلمان
الرواية..نص(ذو اصول شعبية) على حد تعبير باختين..كونها تسجل الانفعال السريع لحركة الواقع بشخوصه واحداثه المتسارعة ..وترصد تحركاته وتحولاته ومتناقضاته الممزوجة بخيالات تخلقها لغة موحية..مكتظة بصخب الحياة..لذا فهي تقدم حبكة درامية متشكلة من مشاهد متفاوتة لخارطة الوجود بكل علاقاته الاجتماعية فتكشف عن دواخل شخوصها من خلال انفعالاتها وتفاعلاتها في البيئة والحدث وتوتراته..
وباستحضار النص الروائي(قنزة ونزة) لناسج عوالمه ومهندس بنائه القاص و الروائي شوقي كريم من اجل استنطاقه والكشف عما خلف مشاهده وعوالمه التي تتميزبتنوع مضامينها الاجتماعية والنفسية والعاطفية..فضلا عن ايحاءاته التصويرية الحكائية وعمقه الدلالي الذي يكشف عن مكنون الذات ببوح وجداني منطلق من مرجعيات فكرية اسهمت في اتساع عوالمه ومشاهده المنصهرة في بوتقة تراكيبه الجملية في السياق والمواجهة الدلالية وفق دوافع نفسية تتفاعل عناصرها الفنية والتجربة الذاتية للتعبير عن الحالة الذهنية والاستقرار في الادراك الحسي لما يحمله من دلالات سيميائية عبر دوال متلاحقة.. مما خلق حالة من استفزاز الوعي الذاكراتي لما يحمله من عمق الفكرة ليشكل نصا(محملا بقدرة من الحساسية) كما يقول هربرت ريد.. فضلا عن اعتماده التقصي والاستقراء في معالجة احداث الواقع ضمن مراقبة مكثفة لحركة وتصرفات الشخوص..فيسجل المشاهد اليومية والعلاقات الاجتماعية وهمها وانسانيتها..اضافة الى تصويره العواطف وكشفه عن صورة المراة الفاعلة والمتفاعلة اجتماعيا..لتحقيق الاثر الكلي على حد تعبير ادجار الن بو..مع الاحتفاظ بوحدة موضوعية سردية لا تخلو من غرائبية تتناسب والوقف الفكري، الواقعي وانعكاساته الوجدانية.
(كثيرا ما رسمنا الطرقات التي نقطعها معا، طرقات موحشة تمتد الى عمق الاجداد الذين كانوا يحملون احمال البداوة فوق ظهور افكارهم دون بحث عن خلاص او مخلص، تقول بعد ان تعود طاشة خيبتها فوق جسدي الذي غدا مثل خرقة بالية.
ـ لا اعتقد ان لخلاصنا معنى كلما جئت طريقا وجدت مئات الاكف تلاحق تلك اللحظة المنقذة اصرخ محتجا اتدافع، اطشر الاحلام من حولي بمكر لبوة تعرف مقاصدها ارفس كل ما يمكن ان يعيق تقدمي ولكني ما البث ان اصطدم بجدار الرفض في محنة العبور ممنوع التفكير بغير العبور نفسه الوراء الذي يثقل خطواتنا يحاول دائما شدنا اليه الاحلام لا يمكن ان تتجاوز الوراء هذا ثمة أكف تلوح فارة من ضيم مقابرنا العتيقة التي غدت لا تكترث لهذا الكم اليومي من التوابيت جنوني دفعني لمراقبة تلك السيول وجنوني دفعني لمرقبة الوجوه الزاتة للموتى ليس غير علامات الاستغراب والحيرة في ربوة هزائمنا السؤال الذي يقتل الهدوء يبدأ:
ـ ليش؟ صدك ليش نموت، وشنو شفنه من عمرنه ليش نموت حتى يعيش الجنرال.
تتكرر الاسئلة بذات المعنى دونما انتظار فرصة للاجابة..) ص5
فالنص يقدم رؤية متشابكة بين المنتج(الراوي)والواقع بكل تمفصلاته باعتماد المشهد الذي ينتزع اللحظة ويسجلها بعناية متناهية في رسم صوره وبطريقة توزيع مناخاته وشخوصه التي تتحرك في عمق وضعها الانساني..لذا تظهر متوترة نفسيا وهي تمارس طقوسها التي تكشف عن عنصر الحركة الذي شكل احد معطيات المستوى الحسي للغة السارد التي وظفت الجزئيات للكشف عن دخيلة الشخصية وتطوير الحدث واعتماد الرمز المكثف القادر على الاشارة من خلال بنيتها وتركيبها..هذا يعني ان الكاتب يقدم نصا ينتمي الى الواقعية الاجتماعية وهو ينهج فيه مستويين متداخلين: اولهما الواقعي ببعديه التاريخي والاجتماعي، وثانيهما التخييلي الخالق لجمال فضاء زمكاني متداخل عضويا ومتناسق تعبيريا..لذا ففضاء النص يبرز المعنى الحدثي الذي يمنحه ديمومة تحرك المخيلة فتفجر مخزونات المستهلك(القاريء)لانتاج وتوليد المعاني والدلالات من المشاهد التي يؤسسها المنتج، والتي تقوم على الفنطازيا التي هي خيال رؤيوي على حد تعبير دانتي باعتماد الشخصية ذات الطبيعة الشائكة في عمقها النفسي المليئة بطموحات الذات الانسانية الحالمة التي يكشفها من خلال الحوار الذاتي الذي يتم الانتقال اليه بتلقائية ممزوجة بالسرد مختصرة المسافات الفاصلة بين الازمان..كون الشخصية تروي الحدث لحظة حدوثه..
ـ انت تضع نفسك دائما في حيرة ما الذي تريده بالضبط دنياك التي تحملها ما عادت تمنحك سوى نواح الاعماق وفوضى الفعل..لم جئت وانت تعرف ان روحك لا تتحمل الخسارات..؟
ـ خساراتي فادحة وخلاصي مستحيل.
ـ ها انت تعلن استسلامك وتبوح بغير ما ترغب..هذه الامكنة يا انت منحتنا ما لا يمكن للمدن التي جئنا منها منحها..كل شيء هناك عطلته الحروب والمجازر وصراخ الاحتجاج..تأمل ما الذي يبنون هناك..اذا ما قلت لك السودان لا تعني بالنسبة لي شيئا لانها ضاعت بين ان تكون في حضن الله أو في حضن الشيطان..البلدان التي لا تحسم امرها ستظل بلدانا دونما معنى..علمونا في المدارس الميتة الفكر ان الحياة محصورة بين بابين تدخل من هنا لتخرج من هناك..ما فائدة دخول وخروج اذا لم تترك اثرا..ومن يهتم بالاثر الذي تترك..هنا كل اثر له حساب وكل قول له معنى محدد وواضح..
ـ ولكن بلادي التي اغتسلت بطين الحروب وتحلت بعطر الدم عرفت طرق الانتماء ولا اعتقدها تستطيع مغادرة ما هي عليه..لايمكن ان اصدق ان الشيطان هو الذي طالبنا بان يكون حضورنا بين يديه بهذه القسوة والفضاعة..كيف تحسب عذابات الاشياء وانت ترى الام تزغرد ابتهاجا لانها منحت ابنها للموت..من اجل ماذا..ولماذا..والامر في المشهد عثمان انها تطالب بحقوق موته..ههههه ام الشهيد اتبرعت جابت ابنها الثاني..أتعرف هذا المعنى عثمان أية امومة هذه التي تحول ابن….فلذة كبد الى سيارة وقطعة ارض.. وطن لا يمنحك بيتا ان لم تعمد عرش سلطانه بدم..هذا ما جعلني اهجر جورية وميري وأجيء لائذا بأذيال كل هذا التيه الذي لا أجد له حدودا..) ص132ـ ص133..
فالنص يتمحور في مضمونه حول الهم الانساني والمجتمعي باعتمادالحكائية في ترتيب الاحداث وتفاعلها وتناميها بخطابها السردي الذي يتسم بواقعية تسجيلية تتميز بالحركة مع اتساع مساحات المكان ورصد الموقف الاجتماعي.. اضافة الى استخدام السخرية للتخفيف من حدة المأساة والاغتراب الذاتي..(امشي بخت..وحجي بخت..مكرود يلمالك بخت..تركض وتتعب علولف تاليهه تكعد عالتخت..حتى التخت راح ما بقه شي يستحق ان ينعاش من اجله..البهجة هجرت الشوارع واحنه هجرنة البهجة..انساك دكلام انساك ياسلام..) ص10 ـ ص11.. فالسرد يعد اشتغالا سايكولوجيا انطلاقا من معطيات الشخصية وسلوكها النفسي وتحولاتها..مع نمو الفعل السردي بشكل لم يتجاوز الرتابة والوصفية والاستطراد مما اضطر الراوي السارد للانسحاب من الروي وحضور الراوي العليم..مما كشف عن وضوح الرؤية وعمق الفكرة المعبرة عن حال الشخصية نفسيا..فضلا عن اتصافها بالتعابير السردية(حدث/شخصية(فضاء زماني/فضاء مكاني بشقيه(المغلق والمفتوح)/حوار داخلي(ذاتي) وخارجي(موضوعي)..مع تماهي النص والحس الانساني عبر مشاهده التي تترجم المشاعر منطلقا من تصوير الجزئيات والتركيز على المفارقة المتناغمة والبناء الدرامي من خلال فاعلية التتابع الصوري النابع من معطيات واقعية لتقدم اضاءة جمالية تسهم في نبش الخزانة الفكرية للمستهلك..فضلا عن استخدام المنتج عددا من التقنيات الفنية من اجل احداث تراكم نفسي لتفاعل الشخصية مع الحدث وتقديم رؤية راصدة وواعية للواقع تحدث نوعا من التواصل مع المتلقي(المستهلك) تاركة له تفاعله والنص فوظف السارد(المنتج) تقانتي الاستباق والاسترجاع وتقانة المونولوج الداخلي(الحوار الذاتي) وتقنية الحوار الموضوعي الذي فيه ينعدم دور الراوي العليم وتلعب الشخصيات دوره… فتكشف عما في دواخلها .. اضافة الى تعدد الاصوات وتوزعها ما بين ضمير الغائب فيكون الراوي العليم فاعلا وعارفا بكل شيء عن الاحداث وتطورها وضمير المتكلم والمخاطب ويكون حينها السارد من النوع المشترك الذي لا يرف عن الاحداث اكثر مما يرفه القارئ(المستهلك)…
وبذلك قدم الكاتب نصا سرديا ينتمي الى الواقعية الاجتماعية وهو ينهج مستويين متداخلين: اولهما واقعي ببعديه التاريخي والاجتماعي وثانيهما التخييلي الخالق للجمالي بفضاء زمكاني متداخل عضويا ومتسما بالتناسق..فضلا عن تميزه بتعدد الاصوات التي وسمته بسمة السرد البوليفوني الحواري..مع اعتماد التداعيات التي وظفها المنتج بقصدية واضحة لتعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهنه المتفرد بحسه الوجداني من خلال تعاملها مع الواقع بوعي يكشف عن اضمومة تتشكل من رؤيتين: الرؤية الاجتماعية والرؤية الإنسانية من خلال مساجلتها مع الحياة بموجوداتها بأسلوبية تمازج الواقع بالخيال اضافة الى توظيف الاساليب البلاغية(مجاز/ استعارة/كناية..) من اجل استدعاء الذاكرة المستهلكة للكشف عما خلف الالفاظ لتحقيق المتعة الجمالية والمنفعة الفكرية.