هذا العنوان “الجنجويد” نشير اليه بوصفه رمزاً لبلدان ومجتمعات ما زالت تعيش في عصور ما قبل الدولة الحديثة ومؤسساتها وتشريعاتها التي تنتصر لكرامة الانسان وحقوقه وحرياته. صحيح انها مفردة سودانية تتعلق بمجاميع قبلية مسلحة متخصصة بالقتل والنهب وتقديم الخدمات لهذه السلطة أو الجماعة الاجتماعية والعقائدية أو تلك، وقد وصلت مآثرها الاجرامية الى غير القليل من المنظمات الاممية؛ الا انها أي مفردة “الجنجويد” تختزن ارثاً سلوكيا وقيمياً وتاريخياً تشترك به غالبية شعوب وقبائل مضارب “خير امة”. لم يختلف امر السودان وشعوبه وقبائله من شتى الرطانات والهلوسات والازياء كثيرا، عما عرفناه في العراق وباقي البلدان المتجحفلة معنا بمثل هذه الاوبئة والخيارات التي عفا عليها الزمن. ان ظهور وتمدد مثل هذه العصابات يعبر عن حالة الاستعصاء وانسداد الآفاق التي تعيشها هذه البلدان المستباحة، وما يحصل اليوم في السودان على سبيل المثال لا الحصر يعكس ذلك تماماً، لا سيما بعد انطلاق احتجاجات السودانيين السلمية ضد نظام الجنرال عمر البشير وجرائم جنجويداته المتسللة لكل مفاصل الدولة والمجتمع؛ عندما وجد السودانيين في ساحة الاعتصام انفسهم وجهاً لوجه أمام هذه العصابات التي امتشقت الزي والعنوان الرسمي “قوات الدعم السريع” بقيادة جنرال الدمج محمد حمدان دقلو “حميدتي”.
ان التحدي الاساس الذي يواجه السودانيين والعراقيين وباقي القافلة المحرومة من نعم الحرية والامن والاستقرار، أصبح أكثر وضوحاً من قبل، بعد أن كلفتهم التجارب العقائدية والتطلعات الفئوية الضيقة الكثير من المحن والاهوال؛ انه تحدي العبور الى عصور ما بعد “الجنجويد”. السودانيون اليوم يحاولون تحشيد كل قواهم الحية لأجل صناعة عبور أقل آلاماً وأكثر حكمة، صوب ما جسده عنوان حركتهم الاساس (الحرية والتغيير) لذلك نجدهم أكثر تمسكاً بالثقافة الضد لقوافل الجنجويد، أي تقافة اللاعنف (السلمية) بمواجهة اساليب القمع والاجرام والذي تجلى في محاولة فك الاعتصام أمام قيادة الجيش، والتي أدت الى فقدان أكثر من مئة متظاهر سلمي لأرواحهم وسقوط مئات من الجرحى. ان النهوض الحالي للسودانيين يترافق وما تراكم لديهم من خبرة ووعي لادارة الصراع بعيداً عن الاوهام الآيديولوجية والعنتريات الفارغة، والتي حولت بلدهم “سلة غذاء افريقيا” الى أحد أكثر البلدان بؤساً وفقراً وتشرذماً. هم اليوم أمام مسؤولية انتشال بلدهم من قبضة هذا النوع من القوافل والجماعات والسلالات المسكونة بغريزة النهب والقتل وشيطنة الآخر المختلف؛ الى سودان آخر يليق بكل هذا الغنى والثراء والتعددية والتسامح القابع تحت رماد غزوات الجنجويد الغابرة…
جمال جصاني