فرنسا تتصالح مع ايطاليا
من الويسترن سباغيتي الى تعرية امريكا
روما: موسى الخميسي
في خطوة اعتبرتها الصحافة الايطالية، محاولة فرنسية لردم الهوة التي بدأ تتسع بين ايطاليا وفرنسا، بعد الخلافات السياسية بين البلدين، على ضوء التصادم في سياسة البلدين بمعالجتهما لظاهرة الهجرة المتفاقمة. فقد اقامت مؤسسة ( سينماتيك) للسينما الفرنسية الرسمية معرض كبير حول المخرج الايطالي الراحل «سيرجو ليوني( ولد عام 1929 وتوفي عام 1989) الذي يعتبر واحد من كبار المخرجين الايطاليين الكبار الذي توفى عن ستين عاما والذي عرف بانه مخترع ( الويسترن سباغيتي) الذي شغف به عدد كبير من المشاهدين في جميع انحاء العالم لما يتمتع به من مسحة اسطورية وما تتميز به هذه الافلام من الناحية الشكلية والبساطة في الديكور والحركة، اذ لم تبل افلام رعاة البقر والعصابات رغم كثرة استخدامها لانها كانت تعمل على تجديد وتنمية امكانيات الدراما الفيلمية بصفة مستمرة، وتوسع من نطاق وتزيد من عمق ما يكتشفه فيها الكتاب والفنانين من امكانيات. وتتزامن مع المعرض الفرنسي، احتفالات ايطالية تستمر شهرا كاملا في روما ومدن اخرى، تشمل عروض سينمائية ومعارض للصور الفوتوغرافية وندوات، بمناسبة الذكرى الثلاثين لغياب هذا المبدع.
دخل سيرجو ليوني السينما العالمية على انه مخترع هذا النوع من الافلام التي شاعت في السبيعينات والثمانيات من القرن الماضي، ولان افلامه حول الغرب الاميركي التي صورّها في استديوهات مدينة السينما( جينا جيتا) في قلب العاصمة الايطالية روما، وفي احدى الضواحي الاندلسية في اسبانيا، التي بنيت خصيصا لانتاج هذا النوع من الافلام السينمائية، والتي عرفت الرواج في كل انحاء العالم بما فيها هوليود.
لكن سيرجو ليوني كان ايضا احد المخرجين العالميين الكبار والاغلى ثمنا في اوربا، وصنفّ في سنواته الاخيرة في فئة العمالقة الكبار امثال الياباني كيروساوا والاميركي والتمان والايطالي فيلليني.
والمثل القائل» فرخ البط عوام» ينطبق على هذا العملاق الذي افتقدته الشاشة العالمية، فقد كان والده» بيرو ليوني» مخرجا سينمائيا مشهورا ايام الواقعية الايطالية، لكنه اصبح عاطلا عن العمل في السنوات التي كرس الحكم الفاشي الفن السابع لاغراضه السياسية، فقد منع من العمل في السينما لانه من حملة الافكار اليسارية. وكانت ام سيرجو ليوني، فنانة سينمائية ومسرحية معروفة في الاوساط الفنية وتدعى( فاليريا برايس).
وضمن الاجواء الفنية العائلية هذه انتقل سيرجو ليوني ، ليعمل في عالم السينما، وهو في السابعة عشرة من عمره ، وعمل مساعد اخراج في مجموعة من الافلام، كما شارك في تصوير الافلام الاستعراضية الضخمة، المستوحاة في معظمها من الميثولوجيا القديمة، او من تاريخ الحضارتين اليونانية والرومانية التي انتجتها ايطاليا تقليدا لأفلام المخرج الاميركي ( سيسل دوميل). وفي عام 1960 صور ليوني اول افلامه بعنوان( آخر ايام بومباي)، وكان ذاك بمحض الصدفة، نتيجة لمرض المخرج الاصلي( ماريو بونار). وعلى ضوء نجاح الفيلم، الذي تميز بجرأته الشديدة واقتحامه لخفايا واسرار عوالم قائمة بذاتها، وهي عوالم الجسد والعلاقات والرغبات، سارعت شركات الانتاج بتكليفه لإخراج فيلم جديد كان بعنوان( جبار رودوس) عام 1961، وهو فيلم تاريخي يتصف بالفخامة، ويبدو بان مخرجه اقل اهتماما بالتجريب الشكلي واكثر امتلاكا لعناصر الاسلوب مع التمكن التام من قي ادة الممثلين وادارة التصوير باستخدام مئات الممثلين الثانويين ايضا، حيث يصوغ سيرجو ليوني احداث فيلمه التاريخي في خط قصصي اكثر سلاسة مما ترويه كتب التاريخ. وقد قال ليوني عن نجاح فيلمه الثاني( لقد استطعت تسديد مصاريف زواجي بفضل الاجر الذي تقاضيته من عملي كمخرج للفيلم). وفي عام 1962 قاد سيرجو ليوني الفريق الايطالي الثاني لتصوير الفيلم التاريخي( سدوم وعموره) للأمريكي روبيرت الدريتش، وهو انتاج سينمائي تميز بالضخامة الانتاجية المبالغ فيها، الا ان الفيلم اتسم بالضعف، ولكن المشاهد التي اخرجها سيرجو ليوني ساهمت في كشف ميله الى الاسلوب الملحمي وجماليات الصورة في علاقتها بالموسيقى. ولما كان ليوني في حاجة للمال، فقد غير اسمه مستعيرا اسما فنيا اميركيا، وهو( بوب روبتسون) مع انه ظل لايتحدث اللغة الانكليزية، بل كان يجيد اللغة الفرنسية، وصور في العام 1964 اول فيلم( ويسترن) ايطالي بعنوان( من اجل حفنة من الدولارات) وهو من افلام الغرب العنيفة، ومستوحى من فيلم( يوجيمبو) للمخرج الياباني الكبير اكيرا كيراسوا. ومع هذا الفيلم ذاع صيت اسم ليوني، وعادت الحياة الى افلام( الويسترن) كنوع سينمائي كانت هوليوود تستعد لدفنه نهائيا. وفي فيلمه هذا انطلق ليوني من معادلات بسيطة، ممثلون غير معروفين، مثل كينت ايستوود ، والممثل واكي والاك، ولي فان كليف، والايطالي جان ماريا فولينتيه، واخراج ملحمي الاسلوب، ومساحات واسعة من الرمال والريح تصورها الكاميرا دون ملل، وحفنة من العنف والمرح الاسود الممزوجة بالدماء والغبار، واخيرا تصوير بطيء تتخلله مشاهد مقربة عديدة لوجوه الممثلين، او عيونهم، او مسدساتهم.
لقد شكل فيلم( من اجل حفنة من الدولارات) الحلقة الاولى من ( ثلاثية) اصبحت تعرف فيما بعد باسم( ثلاثية كلاسيكية للويسترن سباغيتي). وصور ليوني فيلميه الاخرين( من اجل مزيد من الدولارات) وفيلم( الطيب، القبيح، والشرس) في العامين 1965 و 1966. ولم يساهم نجاح الثلاثية في شهرة ليوني فقط بل في اطلاق اسم الشهرة على كل فريقه ليصبحوا نجوما كبيرة في عالم السينما العالمية وخاصة الممثل( كلينت ايستوود ) و( فان كليف) والممثل الايطالي الراحل (جان ماريا فولنتيه)،كما اصبح المؤلف الموسيقي الايطالي( اينيو موريكوني) الذي حوّل موسيقى ( الويسترن) من انغام وفرح راقصة الى موسيقى جارحة تحرق الاعصاب مثل حرارة الشمس في صحارى الغرب الاميركي، اصبح من اشهر المؤلفين الموسيقيين السينمائيين في العالم، ونال عدة جوائز عالمية وعلى رأسها جوائز الاوسكار.
افلام الويسترن بالنسبة الى سيرجو ليوني لم تكن فقط نوعا تجاريا بحتا، بل تعبيرا عن ( الحلم الاميركي) كما عاشه منذ طفولته. قام في عام 1980 بتصوير الفيلم الذي سيكون خلاصة للويسترن على الشاشة الكبيرة، وتحية اخيرة له، فروى استنادا الى معادلة( ثلاثيته) الاولى قصة( تأسيس) اميركا، ابطالها شرير يقتل الاطفال( هنري فوندا) ورجل عصابة ظريف( جايسون روباردز) ومتشرد غامض( تشارلس روبنسون) وامرأة تبحث عن الثراء( كلوديا كاردينالي) وبين الابطال الاربعة حلم واحد هو الحلم الاميركي، يعيش كل واحد على هواه.
لكن سيرجو ليوني نسف في فيلمه ( حدث ذات مرة في الغرب) آخر ما تبقى من اسطورة الغرب النظيف والمتعالي وهي عملية بدأها بطيئة في كل افلامه السابقة. وقد قال ليوني عن فيلمه هذا ( اردت تصوير باليه للموت لهذا السبب جاء الفيلم بطيئا واردت ايضا ان يكون طويلا ليتسنى للمشاهد ان يشعر بحياة ابطال الفيلم الذين يعرفون منذ البداية، انهم سيموتون لامحالة).
بعد تصفية الحساب هذه، عكف ليوني على معالجة امريكا الحديثة في فيلمه الرائع( حدث ذات مرة في اميركا) الذي صوره في العام 1984، وجاء طويلا في اربع ساعات، ملحميا، بطيئا عن علاقة صداقة حميمة وخيبة كبيرة، وحياة ضائعة ، قام ببطولتها الممثلان( روبيرت دي نيرو) و( جيمس وودز). ونقل سيرجو ليوني ايضا العلاقة الوثيقة بين عالم الجريمة وعالم السياسة التي كانت بحسب رأيه احدى دعائم اميركا، لكن المنتجين حين قرروا اختصار الفيلم خشية فشله التجاري، استغنوا عن هذه المقاطع من دون ان يؤثر ذلك على نفسه الملحمي. ومع هذا الفيلم الذي يعتبر من روائع ما انتجه الفن السابع في القرن الماضي، فقد عثر قبل سنوات على اكثر من اربعين دقيقة منه مخبأة في ادراج بيت المخرج لتضاف ومن جديد الى النسخة الايطالية التي عرضت قبل عدة اعوام في دور السينما الايطالية، اذ اعتبره ليوني( افضل افلامه) بدت نظرة المخرج الذي اصطف مع اليسار الايطالي حتى النهاية، الى اميركا اكثر نضجا، وقال تعليقا على فيلمه هذا الذي احتجت عليه الجالية اليهودية ولم يعرض للان في صالات السينما الاسرائيلية لما يصوره من خفايا في حياة العائلات اليهودية الاميركية في ممارسة الاجرام المنظم( نظرتي الى اميركا هي نظرة اوربي يسحر بها احيانا، ويرتعد منها احيانا اخرى).
غير ان ليوني قبل وفاته المفاجأة بالسكتة القلبية في بيته وكان على موعد للقاء الرئيس السوفياتي غورباتشوف في موسكو ، اقترب من نجاح كان سيثير الغيرة طويلا في قلوب مخرجي العالم، اذ سمح له الاتحاد السوفياتي السابق باخراج فيلم كان يحلم بإنجازه، ويعكس واحدة من صفحات التاريخ التي دارت حولها الكثير من الاسئلة. فلقد انتظر هذا المخرج طويلا ليصعد غورباتشوف الى الحكم ليتمكن من ابرام ( اتفاق العمر) لتصوير فيلمه عن( حصار لينينغراد) وبموجب هذا الاتفاق وضعت الحكومة السوفياتية آنذاك اكثر من 500 دبابة هجومية تحت تصرف المخرج الايطالي، اضافة الى ميزانية قدرت بمائة مليون دولار، الا ان وفاته المفاجئة اوقفت كل شيء، وظل هو حيا في قلوب الناس الذين احبته بكل عمق.