تشارلز تانوك
لندن – ينظر المراقبون في جميع أنحاء أوروبا منذ فترة طويلة إلى انتخابات البرلمان الأوروبي التي تلوح في الأفق بوصفها أكبر مواجهة حتى الآن بين التيار الشعبوي والأحزاب الديمقراطية الراسخة في أوروبا. وكشف انهيار الحكومة النمساوية الآن عن مدى ارتفاع مخاطر هذه المواجهة. السؤال الذي يجب أن يدور في ذهن كل أوروبي ديمقراطي، من اليسار واليمين والوسط، الآن هو ما إذا كان الكشف عن مدى وحجم الفساد السياسي والأخلاقي والمادي المتفشي في الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، كما اتضح في النمسا، جرى في الوقت المناسب.
تتولى الحكم في النمسا منذ عام 2017 حكومة ائتلافية تضم حزب الشعب النمساوي (والذي يطلق عليه اسم قائمة سيباستيان كورتز، نسبة إلى زعيم الحزب والمستشار الحالي) وحزب الحرية النمساوي (FPÖ)، الذي تأسس على يد ضباط سابقون من قوات الأمن الخاصة في خمسينيات القرن الماضي. أدى نشر فيديو من وكالتي أنباء رائدتين في ألمانيا، دير شبيجل وزود دويتشه تسايتونج، إلى تمزيق هذا التحالف، ودُعي إلى إجراء انتخابات جديدة في سبتمبر/أيلول المقبل.
كان الفيديو مثيرا للدهشة، اذ أظهر نائب المستشار النمساوي هاينز كريستيان شتراخه، زعيم حزب الحرية، وهو يفرط في شرب الخمر ويعد بمنح عقود حكومية لامرأة تزعم أنها ابنة رجل أعمال روسي. عرض شتراخه على المرأة ترتيب عقود بناء طرق في النمسا بأسعار تضخمية، مقابل شرائها صحيفة كرونن تسايتونج الأكثر انتشارا في النمسا، وتحويل ولاء الصحيفة إلى معسكر حزب الحرية. لكن أغراض شتراخه الفاسدة لم تتوقف عند مقترحه باختراق كرونين تسايتونج. اذ قال إن الهدف الحقيقي لحزب الحرية، تحويل وسائل الإعلام في النمسا إلى مؤيدين مطيعين لحزبه، على غرار ما حققه رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في بلده.
كان استعداد كورتز وترحيبه بتسليم السيطرة على وزارتي الدفاع والداخلية إلى حزب الحرية، عند تشكيل حكومته الائتلافية، شاهدا على مدى تهور العديد من الزعماء الأوروبيين في مواجهة الأدلة المتزايدة على أن الشعبويين اليمينيين المتطرفين في أوروبا يحرصون على تنفيذ أوامر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما كانت جهود حزب الحرية المؤيد لروسيا، والروابط بين شتراخه وحركة «الهوية» المتطرفة، معروفة جيدا في الوقت الذي عقد فيه كورتز صفقته مع حزب الحرية. مع ذلك، وبشكل مثير للصدمة، أغمض كورتز عينيه وسلم حزب الحرية السيطرة على بعض أكثر الوزارات حساسية في البلاد.
لا بد أن الحفاظ على هذا القدر من التغاضي قد تطلب مجهودا كبيرا، فقد كان أحد أول الإجراءات التي اتخذها حزب الحرية للسيطرة على وزارة الداخلية متمثلا في شن غارة على الأجهزة الأمنية النمساوية، والتي كان لها سجل طويل وفعال في متابعة تحركات النازيين الجدد والمنظمات الموالية لروسيا. ومنذ ذلك الحين، ورد أن وكالات الاستخبارات التابعة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي صارت تتجنب تبادل المعلومات مع النمساويين، خوفا من نقل أي معلومات إلى الكرملين بعد اطلاعهم عليها بفترة وجيزة.
تعيش السياسة في النمسا الآن حالة اضطراب، ولم يعد بإمكان شركائها في أوروبا الثقة في حكومتها. وقد حدث انهيار مشابه في الثقة فيما يتعلق بإيطاليا، بسبب مشاركة حزب رابطة الشمال اليميني المتطرف، بقيادة نائب رئيس الوزراء ماتيو سالفيني، في الحكومة. فمنذ انضمامه إلى حكومة ائتلافية مع حركة النجوم الخمسة (والسيطرة على وزارة الداخلية)، أصبح سالفيني أعظم المدافعين عن بوتن في أوروبا، حيث قاد الهجوم على العقوبات المفروضة على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، والدفاع عن احتلالها غير القانوني لشبه جزيرة القرم وضمها لها. وكما هي الحال مع النمسا، كانت أجهزة الاستخبارات الغربية تراقب بحذر نظيراتها في روما.
الواقع أن هذه الأحزاب ليست وحدها. يعرف الأوروبيون منذ فترة طويلة أن حزب مارين لوبان اليميني المتطرف (الذي أعيد تسميته إلى الجبهة الوطنية في عام 2018، في محاولة لطمس بعض ماضيه) اقترض في السابق أموالا من بنك روسي على صلة بالدولة. ويبحث المحققون البريطانيون في الدور الذي ربما لعبته الأموال الروسية في تشجيع الحملة المؤيدة للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يشير إلى إمكانية نمو النفوذ الروسي في المملكة المتحدة بشكل ملحوظ بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. تكمن المفارقة الكبرى الآن في أن الحكومة التي يقودها المحافظون، والتي كانت من بين أقوى حكومات أوروبا في مواجهة محاولات روسيا لتقويض الاتحاد الأوروبي والحكومات الأوروبية الفردية، ستواجه المزيد من التحديات بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
في نهاية المطاف، بريكست، مشروع الكرملين بقدر ما هو مشروع أي طرف آخر. إذ يريد بوتين تقسيم الأوروبيين، وفي المملكة المتحدة، نجح البريكست في تقسيم البريطانيين بشكل غير مسبوق منذ مناقشات قانون الذُرَة قبل حوالي 200 عام. يريد بوتين تفتيت الاتحاد الأوروبي، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يُحدِث أكبر صدع في تاريخ الكتلة. يريد بوتين أن يزرع بذور الشك في شرعية مصادر الأخبار التقليدية، وتعمل وسائل الإعلام المؤيدة لبريكست دائما على الترويج للأكاذيب كحقائق، والتنديد بصحف مرموقة مثل الفايننشال تايمز كأعداء نخبويين للشعب.
الأزمة الحالية في النمسا، بمنزلة صيحة إنذار لقادة أوروبا ومواطنيها على حد سواء. فقد أصبح فساد الشعبويين وخضوعهم لروسيا الآن واضحا للجميع. في انتخابات البرلمان الأوروبي المقرر انعقادها هذا الأسبوع، سيحظى الناخبون في أوروبا بالفرصة ليظهروا أنهم أدركوا حقيقة هذه المؤامرة ضد بلدانهم وضد الاتحاد الأوروبي، وليتصدوا للطابور الخامس الشعبوي في الساحة الأكثر أهمية: في صناديق الاقتراع.
تشارلز تانوك عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي.
بروجيكت سنديكيت
www.project-syndicate.org