الإعدامات غير المرئية في مصر

ماجد مندور

لقد أدّى الاعتراض على عقوبة الإعدام في مصر إلى تراجع الإعدامات، لكنه دفع بالقوى الأمنية إلى اللجوء بصورة متزايدة إلى الإعدام خارج نطاق القضاء والإخفاء القسري.
في 20 شباط/فبراير، أعدمت السلطات المصرية تسعة مدّعى عليهم متّهمين باغتيال النائب العام المصري هشام بركات، ما أثار استياء دولياً شديداً وأُطلِقت اتهاماتٌ بأن محاكماتهم لم تكن عادلة، وبأنه تم اللجوء إلى التعذيب لانتزاع اعترافات منهم. وهكذا فإن الحكومة المصرية، وإدراكاً منها لرد الفعل الدولي المحتمل جراء اللجوء إلى الإعدام وسيلةً أساسية للقمع، باتت تعتمد بصورة متزايدة على التصفيات المنهجية والإهمال الطبي في مراكز الاحتجاز خلال فترات الحجز المطوّلة من دون محاكمة، بدلاً من اللجوء إلى الإعدام الرسمي. كما أن النظام يقرن هذه الممارسات بسياسة الإخفاءات القسرية، حيث يُختطَف المئات سنوياً، وعددٌ قليلٌ منهم فقط يظهر من جديد.
وفقاً لمركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، سُجِّلت 464 حالة اختفاء قسري في العام 2015، وارتفع العدد إلى 980 حالة في العام 2016. يُستخدَم الإخفاء القسري على وجه الخصوص ضد النشطاء السياسيين، وفق ما أورد الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي التابع للأمم المتحدة. تعود هذه السياسات إلى العام 2013، لكنها اكتسبت زخماً مع نمو سلطة المؤسسة الأمنية التي تعزّزت بصورة إضافية من خلال الاستفتاء الدستوري الذي أجري في 20-22 نيسان/أبريل وأسفر عن إحكام الرئيس عبد الفتاح السيسي قبضته على السلطة.
تستعمل قوى الأمن المصرية التصفيات بطريقة منهجية بدلاً من الإعدام الرسمي الذي تراجعت وتيرته في الأعوام الأخيرة على الرغم من الزيادة في أعداد أحكام الإعدام الصادرة في البلاد: فمن أصل نحو 600 حكم بالإعدام صدر في الأشهر الأحد عشر الأولى من العام 2018، لم يُنفَّذ سوى 32 حكماً.
ومع تراجع عدد الإعدامات الرسمية، من 44 في العام 2016إلى 32 في العام 2018، سجّل عدد الإعدامات خارج نطاق القضاء زيادة دراماتيكية. فقد زعمت وزارة الداخلية المصرية أن قوى الأمن أقدمت، بين الأول من تموز/يوليو 2015 و31 كانون الأول/ديسمبر 2018، على قتل 465 «متشدداً» مشتبهاً بهم خلال ما ادُّعيَ أنها عمليات تبادل لإطلاق النيران. وقد أشارت الوزارة إلى أن 117 شخصاً من هؤلاء القتلى هم أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، وصنّفت 320 منهم بـ»الإرهابيين» و28 بـ»المجرمين». ولقي 104 أشخاص فقط من مجموع القتلى مصرعهم في شمال سيناء حيث تواجه القوى الأمنية المصرية صعوبة في احتواء تمردٍ عنيف. إذاً لم تسقط غالبية القتلى في سيناء حيث يستطيع النظام أن يدّعي بطريقة قابلة للتصديق أن الضحايا هم جميعهم أعضاء في تنظيم الدولة الإسلامية. يبدو أن عدداً كبيراً من ضحايا التصفيات هم من أنصار الإخوان المسلمين أو المتعاطفين معهم الذين يُصوَّرون لاحقاً بأنهم متشدّدون.
غالباً ما تلجأ القوى الأمنية إلى التفسيرات نفسها بعد عمليات تبادل إطلاق النيران. فهي تدّعي عموماً أن عناصر الأمن اقتربوا من مخبأ المتشددين المشبوهين أو أعضاء الإخوان المسلمين، وأن هؤلاء تبادلوا إطلاق النار مع عناصر الشرطة – ما أسفر عن مقتل «المتشددين» المشبوهين، في حين أن القوى الأمنية تتكبّد إصابات محدودة أو لا تتكبد أي إصابات على الإطلاق.
يقول بعض الشهود العيان إن هذه الروايات عن تبادل إطلاق النيران ملفّقة، كما أن الصور الفوتوغرافية التي تنشرها وزارة الداخلية لا تتطابق مع روايات الأجهزة الأمنية. فهذه الصور، وبدلاً من أن تُقدّم البرهان على عمليات تبادل إطلاق النيران التي تدّعي القوى الأمنية حدوثها، تُشير إلى أن الضحايا توفّوا جراء إعدامهم عن مسافة قريبة ونُقِلوا بعد وفاتهم. وفي مقطع فيديو مسرَّب في نيسان/أبريل 2017، يَظهر رجلٌ يرتدي لباس جهاز الاستخبارات العسكرية، وهو يقوم باستجواب رجلَين ثم يطلق النار عليهما من مسافة قريبة جداً، وكان هذان الرجلان قد اختفيا قسراً في العام السابق وفق ما تقول عائلتاهما. وفي حادثة أخرى، وبعد مقتل خمسة رجال فيما زُعِم أنه تبادل لإطلاق النار مع عناصر الأمن على مقربة من مدينة العريش شمال سيناء في شباط/فبراير 2017، هدّدت القبائل المحلية بالعصيان المدني الجزئي، بما في ذلك الامتناع عن تسديد فواتير الكهرباء والمياه. غير أن عائلات الضحايا قالت إن الرجال الخمسة كانوا محتجزين لدى الشرطة عند مقتلهم. وبعد يومٍ واحد على شنّ هجومٍ بسيارة مفخخة على حافلة سياحية في الجيزة، ما أسفر عن مقتل أربعة أشخاص في 28 كانون الأول/ديسمبر 2018، أعلنت القوى الأمنية المصرية أنها قتلت المتشددين الأربعين المسؤولين عن الهجوم خلال تبادل لإطلاق النيران معهم. لكن بعد الحادثة، ظهرت صورٌ للضحايا تُشير إلى أنه جرى إعدامهم.
كما أن سقوط عدد قليل من الضحايا في صفوف العناصر الأمنيين يُقوّض الروايات عن تبادل إطلاق النيران – فوفقاً للتقارير، لقي خمسة عناصر أمنيين فقط مصرعهم وأصيب سبعة وثلاثون بجروح بين الأول من تموز/يوليو 2015 وأواخر العام 2018. صحيح أن القوى الأمنية سوف تَظهر على الأرجح أفضل تسليحاً وتدريباً من المتشددين في تبادلٍ لإطلاق النيران، إنما تبقى نسبة القتلى واحداً مقابل 93 لصالح القوى الأمنية.
أبعد من الوفيات التي تُنسَب إلى عمليات تبادل إطلاق النيران، الإحصاءات الأخرى عن الإعدامات خارج نطاق القضاء معبِّرة أيضاً. وفقاً لمركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، بلغ عدد القتلى «في إطار الاحتكاك بالأجهزة الأمنية» 474 قتيلاً في العام 2015 – وقد لقي بعضهم مصرعهم في تبادل لإطلاق النيران، وبينهم مارّة أبرياء، إنما أيضاً قُتِل 175 مشتبهاً بهم في تصفيات مباشرة ولقي 137 حتفهم داخل مراكز الاحتجاز. في العام 2016، سجّل هذا العدد زيادة كبيرة، وبلغ 1384 قتيلاً سقط معظمهم في سيناء. تُبرّر الدولة هذه التصفيات من خلال قانون مكافحة الإرهاب الذي أُقِرّ في آب/أغسطس 2015. تمنح المادة الثامنة من القانون عناصر القوى الأمنية حصانة من المقاضاة إذا «استعملوا القوة لأداء واجباتهم»، بغض النظر عما إذا كان الهدف الدفاع عن النفس أم لا. تُلغي هذه المادة بصورة أساسية أي مساءلة عن قتل السجناء، حتى أولئك الذين هم في فترة الاحتجاز قبل المحاكمة.
فضلاً عن ذلك، تسبّب الإهمال الطبي المتعمد في السجون ومراكز الاحتجاز المصرية بوفاة المئات في الاحتجاز. ففي العام 2015 مثلاً، وثّق مركز النديم 81 حالة وفاة في مراكز الاحتجاز بسبب الإهمال الطبي (بمعزل عن الأشخاص الـ137 الذين أشار المركز إلى أنه تمت تصفيتهم مباشرةً داخل أماكن الاحتجاز). وقد بقي هذا العدد على ما هو عليه في العام 2016، مع 80 حالة. وقبل ذلك، وُثِّقت 170 حالة وفاة بسبب الإهمال الطبي اعتباراً من تموز/يوليو 2013 حتى أيار/مايو 2015. واستمرت هذه النزعة، فقد لي سبعة محتجزين مصرعهم بسبب الإهمال الطبي خلال شهر كانون الثاني/يناير 2019. ومن الأشخاص الذين توفوا جراء الإهمال الطبي شخصيات مرموقة مثل جمال سرور، المدافع البارز عن حقوق الإنسان الذي توفّي في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 2017 بسبب نقص الوصول إلى الأدوية. كذلك، توفّي النائب السابق محمد الفلاحجي، وفريد اسماعيل، وكلاهما عضوان في جماعة الإخوان المسلمين، في 25 أيار/مايو و13 أيار/مايو 2015 على التوالي، بسبب الإهمال الطبي. وتُضاف إلى ذلك سياسة عامة قائمة على سوء المعاملة والتعذيب والاكتظاظ في السجون، ما يتسبب أيضاً بوفاة السجناء. فعلى سبيل المثال، يُقال إن سجن العقرب السيئ السمعة «صُمِّم بحيث إن من يدخله لا يخرج منه حياً». بعدما أسفر الاستفتاء الدستوري الذي أجري في 20-22 نيسان/أبريل عن إقرار التعديلات التي تساهم في تثبيت السلطة في أيدي المؤسسة الأمنية، يُتوقَّع أن تتسارع وتيرة التصفيات، ما سيؤدّي بصورة شبه مؤكّدة إلى مزيد من التشدد وزعزعة الاستقرار.

ماجد مندور محلل سياسي وكاتب عمود Chronicles of the Arab Revolt عبر «أوبن ديمقراسي».
مركز كارنيغي للشرق الاوسط

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة