بصدد “النظرية النقدية”

يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.

تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب

الحلقة 14

لقد كتب ماركوزه إيروس والحضارة في خمسينيات القرن العشرين حين لم تكن هنالك أيّة علامة على أنّ من الممكن لأيّة نزعات أمبريقية أن تتحرك بالإتجاه الذي يشير إليه عمله، وكانت الولايات المتحدة، كما يقول وايتبوك (260:1996)،في حالة غزدهار إقتصادي وصبيانية ثقافية. وهذا ما جعل كتاب ماركوزه قطعةً طوباويّة إلى أبعد حدّ، حيث لم يكن له أن يرسخ قدم سوى في الهواء أو أن يستند بأيّ حال من الأحوال إلى عناصر في الواقع القائم. غير أنّ هذا الكتاب أطلق، على الرغم من ذلك، تلك الفكرة التي مفادها أنّ المستقبل يمكن ان يكون مختلفاص على نحوٍ جذري. والمفارقة، أنّ المشهد الثقافي في أوروبا وأمريكا الشمالية قد تغيّر بصورة دراماتيكية في أواسط ستينيات القرن العشرين، وغدا حضور أفكار ماركوزه واضحاً وجليّاً. فما وقع في تلك الفترة من تغيّر ثقافي-سياسي على هيئة إنفجار يكاد أن يكون ليبيدياً، كان تغيراً لافتاً وغير متوقّع بالتأكيد. بيد أنّ كتاب ماركوزه هو الموضع الذي اكتُشفت فيه تفسيرات ظهور تلك الحركات الطوباويّة في الستينات.
ولا يخلو كتاب إيروس والحضارة من مشكلات. فكما هو الحال مع عمل هوركهايمر من قبل، ذلك العمل الذي سعى إلى الوصل بين ماركس وفرويد، ثمّة في عمل ماركوزه عنصراً من الحتمية التي تختزل الفرد إما إلى أثر من آثار أسلوب الإنتاج؛ وبذلك لا تلعب الفاعلية أي دور. وهو يتكلم أيضاً على مستوى مرتفع من التعميم و”يحل” الأمور نظرياً دون إشارة إلى تلك الورطة أو اللخبطة التي تشكل حيوات البشر الفعلية. فهو يحلّ توترات الحياة وخيباتها بفكرة مستقبل متناغم تماماً، حيث يمكن لمثل هذه الأشياء أن تكون جزءاً أساسياً من الحياة الإنسانية. ومع ذلك، فإنَّ طوباوية هذا الكتاب هي مصدر قوته؛ حيث يمكن لماركوزه أن يبدأ بهذا الخيط حياكةَ رؤية متماسكة تمكننا من “التفكير” بإمكانات أخرى. وهذا بإعتقادي ما ينبغي أن يكون سمة أساسية لأية نظرية إجتماعية، على الرغم من أنّها سمة أُحِسُّ بمدى الضعف الشديد الذي تتصف به على الأرض في هذه اللحظة.

إنقاذ العقل: نظرية هابرماز النقدية:
يتميز الموقف من “العقل” لدى معظم النظرية الإجتماعية المعاصرة بأنه موقف شكّ وريبة. فمعظم الكّتاب ما بعد الحداثيين، مثل ليوتار أو بودريار، يرفضون فكرة أنّ “العقل” يمكن تعريفه خارج السياق الذي يُسْتَخْدَم فيه: فهم يرون أن ليس للعقل أيّ عمق محدد، فهو ليس مهارة بشرية جوهرية ولا الإنجاز البشري الأرفع، بل مجرد تعبير عن الكيفية التي ترى بها مجتمعات محدّدة إلى ذاتها؛ بمعنى بَلْوَرَة رؤيتها للعالم وتبريرها.
وقد يرفض كتّاب آخرون هذه النظرية النسبوية على أساس أنّ “العقل” هو المهارة البشرية في السيطرة على الأشياء والتحكم بها، والإختيار النزيه لأنجح الوسائل في تحقيق غايات معينة. ويقع في هذا الصنف من الكتّاب كلّ من ماكس فيبر في مفهومه عن “العقلنة” أو “الترشيد” والجيل الأول من النظرية النقدية في نظراتهم إلى العقل الأداتي. غير أنّ ذلك لم يكن بالنسبة لأيّ منهم، سبباً للإحتفاء، نظراً لتاريخ العالم الغربي.
أمّا هابرماز فقد خاض في مواجهة ذلك معركة على جبهتين: حماية العقل من التشكّك المطلق وحمايته من الأداتية الصرف. وقد هدف هابرماز إلى الكشف عن تعيد العقل وتنوّعه، لكنه هدف أيضاً إلى التمسك بفكرة أنّ العقل هو ما يمكّننا من فهم الواقع ورؤية حقيقة الأشياء، على الرغم مما يتكشف عنه فهمنا على الدوام من عدم العصمة وقابلية الخطأ، اللذين يتأتيان عن إن المفاهيم التي نستخدمها لفهم الأشياء هي مفاهيم تعكس بالضرورة إفتراضات السياقات التي ولّدتها، وهي سياقات تختلف بالطبع وتتبدل. بيد أن المعرفة وإن كانت سياقية، إلا أنها عند هابرماز ليست سياقية وحسب؛ فمن غير الممكن أن تختزل المعرفة بصورة كلية إلى سياقها. وقد تلعب السياقات دوراً كبيراً في تحديد ما نعدّه معرفةً في أيّة لحظة محددة لأنَّ هذه السياقات تنطوي على اللغات، والممارسات الإجتماعية، والإفتراضات الأخلاقية التي نعيش من خلالها. لكن ذلك لا يعني أنّ بمقدورنا أن نطيح بالتمييز بين الحقيقة والزيف أو الصواب والخطأ. فمن غير هذه “الكليّات” لايمكن أن نفهم العالم. وعلاوة على هذا، فإنَّ المعرفة ليست سكونية بل عرضة للتنقيح وإعادة النظر بتغيرّ الأحوال، كما أننا نجد أسباباً جديدة تفسّر الأشياء التي تواجهنا. ولا شك أنّ ما نتوصل إليه بمعرفة جديدة يظلّ جزءاً من سياق آخر، لكن ذلك لا يغير من واقعة أنّنا نجد أسباباً وجيهة لتبديل آرائنا.
ولقد عنى الخوض في مثل هذه السبل، بالنسبة لهابرماز، ضرباً من التقلّب الدائم خلفاً وقُدَّاماً في المواقف، الأمر الذي خلق قَدْرَاً معيناً من القلق والتقلقل في عمله. وهذا نا يذكّر أيضاص بفكرة أدورنو أنّ “الوسط المكسور” لا يقبل الحلّ في الظروف الحالية. ومع ذلك، وعلى الرغم من إختلاف عمل هابرماز ذلك الإختلاف الواضح في النبرة والنظرة عن عمل أسلافه، فإنَّ الجهد الذي يبذله للإبقاء على خط بين القطبين المتعاكسين وبحثه عن حلٍّ ما إنما ينمان على الدفعة الطوباوية ذاتها، وإنْ بدا عمله بعض الأحيان أشبه بإستكشاف مجرّد لا ينتهي.
ولقد رفض هابر ماز أيضاً ماكان لدى أسلافه من كاركسية-هيغلية تاريخية تميل إلى الكوننة والشمول. ونظراً لما قّدمتُه من أسباب في الفصول الثاني، والرابع، والسابع، فإنَّ هابرماز لم يعد يصدق فكرة أنّ التاريخ يتحرك على ذلك النحو الهادف بإتجاه الشيوعية. وع هذا، فإنَّ لدى هابرماز تلك الدفعة بإتجاه إيجاد معايير كونيّة للعقلانية تشكّل أساساً للعالم الإنساني وتكون خاصّة ونوعيّة بالنسبة له.
ولقد سعى عمله الباكر في المعرفة والمصالح البشرية إلى تبيان أنّ هنالك أنماطاً من المعرفة. فالمعرفة ليست شيئاً واحداً بل أشياء متعددة، لكل منهل “مصلحته المعرفية”. فالمصلحة البشرية في السيطرة والتي تقوم على حاجتنا إلى البقاء المادي، أدت إلى ظهور العلوم الطبيعية. كما أنّ لدى البشر حاجة إلى البقاء الجمعي وهذه المصلحة العملية تعبّر عنها أفكار العلوم الإنسانية بإلحاحها على مُنجزات المجتمع القائمة على اللغة، وبين الذاتية: ممارساتنا الإجتماعية، وقناعاتنا الأخلاقية، ومنتجاتنا الثقافية. وهناك أيضاً مصلحة بشرية ثالثة بالتحرر، هي مصلحة مستمدة من الحاجة البشرية إلى توجيه الذات في عالم يقيّدنا إما من الداخل أو من الخارج وبصورة ليست شرعية. وهذه المصلحة تنتج معرفة تشترك بشيء ما مع كلا المعرفتين الأخريين وتؤدي إلى قيام فروع نقدية معينة، خاصة التحليل النفسي والنظرية النقدية. ولقد تناولت هذه الأفكار بشكل مفصَّل في الفصل السابع، وأذكرها هنا لكي ألقي الضوء على واقعة أنّ ما كان يهدف إليه هابرماز هو أن يتحاشى مزالق النظر إلى المعرفة على أنّها لا تعدو أن تتعلق بالسيطرة، أو بالسياق الذي أنتجها.
ويرمي عمل هابرماز اللاحق على العقلانية التواصلية إلى الغاية ذاتها وإنْ يكن بطريقة مختلفة. فبدلاً من القول إنّ المعرفة جميعاً شيء واحد، راح هابرماز بين كثافة المعرفة الإجتماعية، تعقيدها. وقبل هذا وذاك عقلانيتها الكونية. وهو يتحدّى الفكرة التي مفادها أنّ ما يجري في العالم الإجتماعي هو أمر إعتباطي و”داتي”، ويرى بعكس ذلك أنّ له أساسه المنطقي النوعي والمحدّد. وتكمن أهمية عمل هابرماز في إلحاحه على أنّ العالم الإجتماعي هو عالم عقلاني وأنّنا ما إنْ نفهم الطبيعة النوعية لهذه العقلانية حتى يكون بمقدورنا أن تقوم صحّة الظواهر الفعلية التي تنطوي عليها. فلا ينبغي أن نستسلم لفكرة أنّ المعارف الإجتماعية تتعلق بالسياق وحده وترتّد إليه، أو أنّها تتعلق بالسيطرة وحدها وتقتصر عليها.
ومع أنّ هابرماز لم يعد يستخدم مفهوم “الوضعية الكلامية المثالية”، ذلك المفهوم بالغ الطوباويّة، إلا أنه مفهوم يكمن في القلب من مشروعه. ف”الكلام المثالي” يشير إلى ما يشكّل بالنسبة لهابرماز السمة الأساسية للتواصل البشر عبر اللغة. ففي حين تتناقل الحيوانات معلومات عبر أصوات يمكن أن ندعوها لغة، فإنَّ لدى البشر القدرة على التوصّل إلى توافق. ومثل هذا التوافق يقتضي شخصين أو أكثر يتبادلان الأفكار بحرّية ويقبلان قبولاً متبادلاً صحّة إدّعاءات واحدهما الآخر بغية التوصّل إلى إتفاق عقلاني. ونحن نعلم بالطبع أنّ البشر في الأحوال اليومية يطوّقهم ما لا يحصى من القيود، كالقوة الإقتصادية، الإيديولوجيا، والقوى غير الواعية. غير أنّ هذا ما يشير إليه هابرماز؛ ففي معظم الأحوال، ما يترسّخ ويسود هو التوافق اللاعقلاني. وهو لا عقلانية لأنه ينافي أساس التواصل البشري، والذي هو التوصّل إلى إتفاق مشترك يتّم بحرية.
ويمكن أن نتساءل بالطبع، ما الذي يفرض علينا أن نعتبر هذا التوصّل إلى توافق لباب التواصل بواسطة اللغة؟ ويكاد الجواب الذي يقدّمه هابرماز أن يكون جواباً ظاهراتياً حيث يطلب منّا أن نفكر بما نفعله حين نتكلم. فنحن نحاول على الدوام أن نُقْنع الآخرين بصحّة رؤيتنا للأمور ونتطلع إليهم كيما يثبتوا ذلك أو ينفوه. وقد نكذب عليهم عامدين، بل ويمكن أن نخدع أنفسنا بأشياء، لكنّ الهدف من قول ذلك كله هو إقناع الآخرين بأنّ هذا هو الحال.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة