عبد الناصر النجار
تعود الذكرى الحادية والسبعين للنكبة موشحةً بالسواد وعذابات التطهير العرقي والتهجير القسري لشعب فلسطين الذي ما زال يبحث عن حقه بدولة مستقلة بعيداً عن الإعصار المدمر القادم من الغرب بخطاياه كلها.
أصبحت النكبة جزءاً من حياتنا على الرغم من محاولات الاحتلال وأعوانه المستميتة القضاء على مصطلح لاجئ فلسطيني.. لكن محاولاتهم وضغوطهم المالية خسئت.. فتراب القرى والمدن المدمرة والمهجرة في العام 1948 لا يمكن مبادلته بثروات العالم.
«الفالوجا.. ذاكرة ليست للنسيان» هو العنوان المكرر لمقالاتي في الذكرى السنوية لنكبتنا، للتأكيد دائماً أن تعريفي لنفسي يبدأ من الفالوجا قبل أي مكان آخر ولدت أو ترعرعت أو أقمت فيه.. وللتأكيد أيضاً أن الفالوجا ستظل بلد أولادي من بعدي وأولادهم في نفي مطلق لمقولة قادة الاحتلال «الكبار يموتون والصغار ينسون». في ذكرى النكبة كل عام أحاول توثيق جزء من الرواية الشفوية على لسان من تبقى على قيد الحياة من كبار عائلتي النجار أطال الله في أعمارهم.. بحيث تصبح الرواية جزءاً أساسياً وراسخاً من الذاكرة وعلى أثرها يمكن تصور الواقع الطوبغرافي والديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي للفالوجا، وكأننا نعيش فيها الآن.
في الذكرى الحادية والسبعين أترك لوالدتي الحاجة زبيدة عبد الفتاح النجار الثمانينية الإسهاب في تدعيم ذاكرتي وإضافة الجديد إليها كفرد أو مجموع يطالب بحق العودة إلى أرضه.
أسألها بداية عن طقوس رمضان والعيد خاصة أن الذكرى تأتي في الشهر الكريم فتقول «منذ اليوم الأول لشهر رمضان وحتى نهايته كان إفطار رجال العائلة جماعياً في «الحارة» (ديوان العائلة).. فقد كانت عائلة النجار تلتئم في ديوان المختار الحاج إبراهيم عبد الفتاح النجار. وكل رجل قبل الإفطار يحضر طعاماً من بيته مثل المفتول والجريشة واليخاني والعدس والدجاج البلدي واللحم إن توفر، ليتناول الجميع الطعام معاً… أما النساء والأولاد فكانوا يفطرون في بيوتهم. ويستمر هذا الطقس حتى يوم العيد الذي يسبقه تحضير النساء الكعك خاصة مع توافر التمر ورخص ثمنه… ثم يشتري الأهالي كسوة العيد خاصة المقتدرين منهم، ولباس الرجال كان الهمدية المقلمة (القمباز) والحطة والعقال والبعض من الكبار يضع على رأسه الكُفّية (العمامة) أما النساء فالثوب المطرز والغُدفَة (غطاء الرأس الأبيض).
وعن موقع حارة النجار تقول كانت الحارة تقع في الجهة القبلية (الجنوبية) على طرف البلد، وكانت بعيدة عن مقام سيدنا أحمد الفالوجي، وهو مقام رجل صوفي أسس البلدة، وكان المقام يستخدم كمصلى ومكان لتقديم النذور خاصة من أهالي القرى والبلدات المجاورة إضافة إلى «العرب» (البدو) ومنهم عرب الرواوعة وعرب أبو جابر الذين كانوا يقيمون في المنطقة وصولاً إلى النقب.
أما البيوت فكانت تبنى من الطين والقش والحجارة (وربما ساعد ذلك قوات الاحتلال على إزالة بيوتها من على وجه الأرض وما بقي مؤشراً عليها هي أكوام الحجارة، بعد أن حولت سلطات الاحتلال مسطح القرية إلى غابة). أما الزراعات الرئيسة فكانت الحبوب وخاصة القمح والشعير والذرة والعدس إضافة إلى الخضراوات المتنوعة والمقاثي كالبطيخ والشمام وقليل من بساتين الأشجار المثمرة التي كانت زراعتها بيتية فردية.
تستطرد الحاجة زبيدة عبد الفتاح النجار في روايتها مضيفة: الفالوجا كانت مركزاً تجارياً وفيها أكبر سوق في المنطقة كانت تسمى سوق البرين وكانت تعقد كل خميس عند مفرق المجدل –غزة. ويحضر التجار من كل الأماكن القريبة والبعيدة من النقب وغزة والجبل (الضفة الغربية) والسهل (الساحلي) وكانت تضم البضائع الزراعية والصناعية والحيوانات ومنتجاتها وكل ما يخطر على بال.
ومن هنا جاء المثل الدارج في الفالوجا «بجيبك خميس» وتوضيحاً تقول من كبر السوق وأهميته كان كل المواطنين والتجار من المناطق يشاركون فيه وعندما يختلف مواطن من أهل الفلوجا مع آخر من خارجها يقول بجيبك خميس، أي السوق ليأخذ حقه.
وعن الاعتداءات الصهيونية في حينه تقول في روايتها الشفوية بدأت الاعتداءات تتصاعد فجأة وتزايدت بعد وصول الجيش المصري وتمركزه في البلدة حيث فتح باب التطوع للشباب والرجال ولكل من هو قادر على حمل السلاح أو المساعدة في حفر الخنادق وكانت قيادة الجيش المصري تتمركز في الحارة عندنا لأنها مطرفة، وأقام ضباط مصريون عندنا في البايكة (مستودع لتخزين الحبوب في ذلك الوقت).. وفي يوم أسود بدأ قصف الطائرات الصهيونية للبلدة بالقيزانات (البراميل المتفجرة) وكانت الضربة الأولى في حارة عائلة النجار، حيث ارتقى كثير من الشهداء منهم عائلة عبد المجيد النجار «الحصان» كاملة بمن فيهم هو وزوجته وأولاده، والشهيد عودة بشارة النجار والشهيد حسن عطا الله النجار وكان وحيد والديه، وهو ابن خال أبيك، إضافة إلى عمّتيك مريم مصطفى النجار (10 سنوات) ونعمة مصطفى النجار (8 سنوات).
وعن سبب استشهاد عمتاي الوحيدتين ونجاة أعمامي تقول: خلال العدوان خرجت جدتك فضة لتطمئن إلى بِكرها «أبيك» وكان مجنداً مع الجيش المصري فتركت الطفلتين في بيت أخيها عطا الله الذي دمرته الطائرات فاستشهد كل من كان فيه ونجا أعمامك لأنهم كانوا في بيت العائلة.. وقد تم تجميع أشلاء الشهداء لأن أجسادهم كانت مقطعة من شدة القصف.
وحول العلاقة مع الجيش المصري تقول إنها كانت ممتازة وخلال حصار الفالوجة كنا نتقاسم الطعام والشراب معهم وما زلت أذكر البيك طه القائد المصري الكبير الملقب بـ»الضبع الأسود» والضابط حمزاوي والبكباشي جمال عبد الناصر (الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي حوصر في الفالوجة ودافع عنها وتأكد من مدى ضعف وعمالة النظام العربي الرسمي في حينه)، وقد استشهد عدد كبير من الجنود المصريين (يوجد نصب للشهداء المصريين في البلدة بأسمائهم)، (رواية والدتي الشفوية باختصار شديد).
وأنا أضيف جزءاً من رواية والدي الشفوية رحمه الله «في إحدى الليالي كنت مناوباً على الحراسة مع جنود مصريين.. كنا مستعدين في الخندق، عند منتصف الليل أحسسنا بقوة صهيونية تحاول التسلل إلى البلدة من خلف شجيرات الصبر (الصبار) فأطلقنا النار والقنابل اليدوية وبعد الاشتباك وانسحاب القوة الصهيونية المتسللة وجدنا كثيراً من الدماء والعلاجات التي خلفها الأعداء «قصة كان والدي يفتخر دائماً بترديدها. هذه هي الفالوجا …»ذاكرة ليست للنسيان».
ينشر بالاتفاق مع جريدة الأيام الفلسطينية