الومض الشعري وتأسيس الاضاءة الخالقة في(سيبار)

علوان السلمان

لقد قيل مرة..ان الفنان يلون الاشياء بروحه والشاعر باندماجه بالاشياء يضفي عليها مشاعره..كون الشعر هو التكامل بين العاطفة والصورة التي تعكس عوالمها التي اكدها علماء الجمال حين قالوا(الشعر هو التفكير بالصورة)..
والنص الومضي الشعري تأسيس على الاضاءة الخالقة لفن متسع الرؤى..موجز العبارة بتجاوز المبنى والمعنى انطلاقا من قول النفري الصوفي(كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا) للتعبير عن لحظة شعورية خالقة لحقلها الدلالي والايحائي..لذا فهي (الشكل والمحتوى مندمجان في عملية الخلق الادبي) على حد تعبير هربرت ريد.. كونها نص دائم التخلق له تشكيله الابداعي وصوره ولغته وايقاعه (الداخلي والخارجي) مع بنية مركزة التكثيف تستفز اللحظة الشعورية وتحيط بها..اذ انها مغامرة يخوض عوالمها طائر الفينيق الشعري لتشكيل رؤية ابداعية تتنفس داخل روحه الخالقة..المعبرة عن وجد شعوري وجوهري للاشياء لتحقيق الوجود الحالم..كون الوجدان الشعري تاريخيا مؤسس على الاهتزاز للاضاءة السريعة فكرية كانت ام وجدانية ..لذا فهي شكل من اشكال الانزياح الشعري الناجم عن موقف انفعالي يباغت المستهلك(المتلقي) بصوره التي تكشف عن عمق دلالي لانها تجعل من اللغة فكرا والمرئي تخيلا..بتشكلها من الفكرة الشعرية لا من اللغة الشعرية حتى صار الحديث عنها حديث عن النزعة البلاغية والتكثيف والايجاز والايحاء باستنطاق الرموز والصور..وهذا يعني انها تاسيس قائم على الاضاءة الشعرية المعبرة عن لحظة شعورية مكتنزة باضائتها ومنسجمة باختزالها وايجازها الدال على حقلها الدلالي فكريا ووجدانيا بمواءمتها للعصر باسلوب حداثوي يشير الى زخم من التكثيف الاسلوبي والفني لتحقيق تاثيرها عبر عنصر الاضاءة السريعة للحظة المستفزة للذاكرة بما تحمله من معنى ايحائي مكتظ بشعرية التضاد المعبرة عن الحالة النفسية المازومة زمانيا ومكانيا مع تعدد ظلال الرؤية..
و(سيبار حين يئن البجع)..المجموعة الشعرية التي نسجت عوالمها النصية انامل الشاعرة غرام الربيعي واسهم الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق في نشرها وانتشارها/2018..كونها نصوص تتشكل وفق تصميم هندسي ينم عن اشتغال عميق يعتمد التقاط الجزئيات وصياغة رؤيوية ترقى من المحسوس الى الذهني..ابتداء من العنوان الدلالة السيميائية الكاشفة عن مضامينها ومجمل تحركاتها الدرامية ودلالاتها اللفظية.. حتى انها تؤنسنه للتعبير عن حالة شعورية باسلوب درامي حالم..وعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي..
سأقتفي أثر الغياب
ليس لي أن أثق بموت لا يعترف بسكناك قلبي
ليس لها ان تعصف بالطرق تلك الرمال
كعازف للريح..صمتي
سألغي مواعيد السفر لتذاكر ما زحتني سهوا
كلما أصابني الكتمان عن خطايا الاعذار
يا مزار سكوني
سأرسم خرائط لا تشبه نهراها دمع التراب
وحفنة غزيرة الملامح أصابها الاعتراف بالوهن /ص86
فالنص يمتلك قدرة تعبيرية مختزلة لتراكيبها الجملية..خارجا عن المالوف والقوالب الجاهزة..بتخلقه من ذاته وعلى ذاته في حركة بؤرية مكثفة..نامية..متجددة بتوترها مع كل دال ومدلول..يكشف عن شاعرة تعي ذاتها الخالقة لتجربتها المدركة لهواجسها المضطربة على المستوى العاطفي والنفسي..لذا فهي تترجم احاسيسها وانفعالاتها الداخلية بابداع رؤيوي عميق بتوظيف تقنيات فنية محركة للنص ياتي في مقدمتها الرمز السمة الاسلوبية التي تسهم في الارتقاء بشعرية النص وتعميق دلالاته.. واسلوب الاستفهام الباحث عن الجواب لتوسيع مديات النص..اضافة الاى انسنة الجمادات(دمع التراب).. والتنقيط(النص الصامت)..الذي يستدعي المتلقي للاسهام في بناء النص..والتكرار الظاهرة الصوتية التي تحتضن دلالة نفسية وعاطفية خارج الذات لتحقيق التوازن وخلق موسقة شعرية تخفف من حدة الماساة والتعبير عن الحالة القلقة التي تعانيها الشاعرة..فضلا عن تركيز الشاعرة على العناصر الشعورية والنفسية الخالقة لجدلية(الذات والموضوع) لخلق نص الرؤيا في اطاره البنيوي مع تجاوز المالوف والانطلاق في فضاء الوجود والطبيعة وصولا الى اللحظة الانفعالية المولدة للوظيفة الجمالية المتمثلة في الادهاشية المفاجئة.. ليكون خطابها محققا لوظيفته الانفعالية باستخدام الطاقات الحسية والصوتية والعقلية عبر بناء يفجر اللغة باستثمار خصائصها بوصفها مادة بنائية لصور ايحائية تتكيء على الايجاز واثارة الخيال بتوظيف المجاز المعبر عن لحظة التوهج..مع نهاية خاطفة..مدهشة متعالقة والعتبة الاستهلالية ونتيجة لها..لانها تبلور الرؤيا الشعرية المعبرة عن الذات الانساني فتعكس القيمة الحقة للروح الانسانية وما يختمر بين طيات فكرها بقدرة تعبيرية متكئة على رمزية تكتنزها البنية النصية المختزلة لها باعتماد الجملة الشعرية المتميزة بالتكثيف اللغوي ودقة السرد الشعري وصولا الى اللحظة الانفعالية المولدة للوظيفة الادهاشية المفاجئة..
فكرة الحرب أطول من عمري
وسمرة قلبي كرغيف أمي
يتكسر لبكاء يتيم
ويخفق في قراءة الارقام
الارقام التي لا تنفع في عد أحزاننا
لذا لا تذكرني بالشهداء
تحدثي عن سيء جديد
فالحرب متيسرة / ص 120 ـ ص121
فالنص يكشف عن شاعرة امتازت بقدرتها على خلق نصها وسيطرتها على ادواتها الشعرية من خلال صمت نصوصها وضجيج دلالاتها..كونها تعمل وفق ميكانزيمات لغوية تبث الروح في ثنايا النص المعبأ بالدهشة والمركز على المعاني باعتماد الايجاز والرمز الذي يقبل التاويل ويسهم في نبش الخزانة الفكرية للمستهلك..كونها نصوص دائمة التخلق بقابليتها على التحرك في الزمكانية بسبب طاقتها الدينامية الفاعلة والمتوالدة في ذاتها النصية كي تستفز ذهن المتلقي وتحرك مكنونه الفكري الذي يكتشفه القاريء عند البحث عن اركيلوجيا النص وتفكيك معطياته وتحديد بؤره الجمالية التي انبثقت منه والتي تكشف عن وعي الاشتغالات النصية الوامضة التي تستنطق الذات وتختصر المسافات في لحظة حلمية تعتمد كثافة الايحاء وايجاز العبارة..
وبذلك قدمت الشاعرة نصوصا شعرية تستنطق اللحظة الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد حقول تسهم في اتساع الفضاء الدلالي للجملة الشعرية باستيعابها لمعطيات النص الومضي وثرائها العميق في الاختزال والتكثيف والقدرة على الادهاش والخلق الفني باختصار المسافة الحالمة عبر زمكانية وتركيز واقتصاد في الالفاظ المكتنزة بالرؤى والمعاني..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة