“أنا انسان بالضرورة وفرنسي عن طريق الصدفة” مونتسكيو
عبارة مؤلف “روح القوانين” وأحد أعمدة صناعة العالم الحديث وصاحب نظرية فصل السلطات مونتسكيو (1689-1755) بمقدورها أن تسلط الضوء على ما انحدرنا اليه كعراقيين (أفرادا وجماعات) في العقود الاخيرة مقارنة بما تعكسه تلك العبارة من قيم وشحنات ارتقت بسلالات بني آدم بعيدا عن خنادق ومتاريس “الهويات القاتلة”. ومثل هذه الافكار والقيم التي انتصرت لآدمية البشر من دون تمييز على اساس العرق أو اللون والحدود الجغرافية، تعرف عليها العراقيون بعد تحررهم من الهيمنة العثمانية، حيث لم يمر وقت طويل حتى وجدت تلك الافكار بارض العراق مكانا خصباً لنموها وازدهارها، لأسباب يدركها كل من يعرف شيئا عن تاريخ هذا الوطن القديم، الذي يكشف عن أفضل ما لديه مع التعددية والعقلانية والحريات، وبالعكس تطفح عنه أبشع الصفحات وأكثرها عتمة مع هيمنة التعصب وقمع الآخر المختلف ومطاردة الأحرار ومن يتجرأ على استعمال عقله ورعاية آدميته.
الحقيقة التي لا يطيقها لا فلول النظام المباد وواجهاته الجديدة، ولا سدنة وحيتان ما بعد “التغيير” والمتجحفلين معهم بسرديات الرسائل الخالدة؛ اننا انحدرنا باختطافهم لمقاليد شؤون الدولة والمجتمع، الى مرحلة تسترد بها القبائل والطوائف لهيمنتها وسطوتها على حساب ما تبقى من حطام الدولة ومؤسساتها. وقد شهدنا كيف تعاطت الكتل المتنفذة مع ذلك الارث من القبائلية والمناطقية الذي اسس له النظام المباد، وكيف استثمرت في حقوله الآسنة، لنصل الى ما نحن عليه اليوم من حال واحوال لا تحسدنا عليها قبائل الهوتو والتوتسي. أفكار وقيم عصر النهضة والتنوير والتي عبرت عنها عبارة مونتسكيو التي اشرنا اليها، هي ما نحتاجه كي ننتشل مشحوف انسانيتنا المشترك مما انحدر اليه في العقود الخمسة الاخيرة. نحتاج الى دولة القانون لا بالمعنى الذي تمتلكه الاحزاب والكتل الطائفية والاثنية، بل بالمعنى العابر لـ “الهويات القاتلة” وما ينضح عنها من معايير القرون الوسطى ومسطرة “الولاء والبراء” والمنتسبين لـ “الفرقة الناجية” وغير ذلك من سكراب القوافل الغابرة.
ان العلاقة التي تربط هذه الكتل والجماعات مع النفوذ المتنامي للقبائل والعشائر لم تعد مكشوفة وحسب، بل وصلت الى اطوار واسعة وعميقة من التخادم المتبادل بينهما، وهذا يكشف عن زيف الادعاءات حول وجود خطط حكومية للحد من هذا التغول الهائل للقبائل والفصائل المسلحة. كما لم يعد سرا أمر الوشائج الوثيقة التي تشدهما لبعضهما البعض الآخر، وسط بيئة من الاقتصاد الريعي الطفيلي المتواطئ مع مثل هذه الاصطفافات والائتلافات السياسية والاجتماعية والقيمية. ومع الاسترخاء المطمئن لما تبقى من سكراب القوى الديمقراطية والعلمانية على تضاريس الجهة الاخرى؛ تكون الكتل المتنفذة في المشهد الراهن واثقة ومطمئنة لرسوخ هيمنتها وديمومتها على المدى المنظور. لا احد ينكر مدى شعبية مشروع امتلاك الدولة الحديثة بتشريعاتها الحضارية ومؤسساتها، لدى الكثير من العراقيين، ومدى امتعاظهم واستياءهم من جميع القوى والفصائل التي تاكل من جرف دولة القانون الموعودة، لكن كل ذلك ما زال لا يتعدى حدود الوغف العابر. لذلك انحدرنا برفقة قوافل القرن السابع الهجري الى مرحلة يعجز فيها مونتسكيو بجلال قدره عن فك طلاسم سؤالها العتيد: انت من يا عمام…؟
جمال جصاني