حفريات في الذاكرة العراقية

(دراسات تاريخية)

من الكتب المهمة التي ألفتها الدكتورة أنعام مهدي علي السلمان في قمة نضجها الفكري، فقد كتبته بعد عام (2003)، تناولت فيه موضوعات جديدة تخص تبلور الذاكرة العراقية بموضوعات عن المرأة العراقية ودورها البنيوي في المجتمع العراقي مثل: صبيحة الشيخ داود ودور الكرد في المشهد السياسي العراقي، والنشاط السياسي الحزبي في آواخر العهد الملكي، وتداعيات بدايات العهد الجمهوري والصراع بين الملكيين والجمهوريين ممثلة في نشاط السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وغيرها من الموضوعات المهمة والشيقة، والتي تجمع بين الابعاد التاريخية والسوسيولوجية والفكرية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية العراقية بأبعادها المتنوعة، فهي حفريات في الذاكرة بقراءات تاريخية جديدة تبتعد عن القوالب القديمة التي نحتت تاريخنا ببعده السياسي واهملت الجوانب الأخرى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تتجاوز أهميتها الجانب السياسي في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
تقدم “الصباح الجديد” بين يدي القارئ مختارات من فصول هذا الكتب آلا وهو “حفريات في الذاكرة العراقية…دراسات تاريخية” في حلقات عدة لما له من قيمة كبيرة وممتعة في الوقت نفسه لكونه يتناول موضوعات ذات أبعاد اجتماعية وفكرية تخص النخب العراقية التي تعد عاملا أساسيا في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.

الحلقة 12

أ.د. أنعام مهدي علي السلمان

بعد ساعة من اذاعة البيانات اخذت تختفي موجات الاذاعة وكان السبب في ذلك قطع التيار الكهربائي عن مرسلات ابي غريب وتحول الاذاعة الرسمية الحكومية الى مقر بديل في منطقة المدائن وتقدم قوات الحرس الجمهوري التي كانت تحت قيادة العقيد الركن بشير الطالب باتجاه ابي غريب حيث جرت معركة بالقرب من قصر الزهور حيث لااستسلم الانقلابيون اثر تلك المعكرة مع دباباتهم ةالثلاثة.كما ان عبد الرحمن عارف وبعد مكالمة هاتفية مع يونس عطار باشي امر العقيد الركن عبد الكريم شندالة بتسليم زمام الامور في الموصل واحالة الاول على التقاعد .في الوقت نفسه كانت هناك معارك طاحنة تدور بين الفوج الذي يقوده المقدم الركن ابراهيم عبد الرحمن الداوود مع (15) دبابة تقدمت من مدرسة الدروع نحو بغداد من جسر الخر باتجاه القصر الجمهوري وانتهت المعركة بسيطرة القوات الحكومية .اما القصر الجمهوري فكان مطوقاً من قبل دبابات الموالين لعارف عبد الرزاق فضلاً عن استمرار قصفه بالطائرات .
كما كان معسكر الوشاش محاصراً لكن القوات الحكومية نجحت في قك الحصار عنه ثم اتجهت جميع القوات الى القصر الجمهوري لفك الحصار عنه وحمايته رغم القصغ الجوي عليه.
تمكنت القوات الحكومية من السيطرةعلى قاعدة الحبانية ، كما تمت السيطرة على القاعدة الجوية في كركوك.
وتبعها السيطرة على الاذاعة وبذلك عادت الاذاعة الرسمية التي اعلنت ان الرئيس عبد الرحمن عارف سيوجه كلمة الى الشعب العراقي .وفي اثناء توجه الرئيس عبد الرحمن الى مبنى الاذاعة في الصالحية حاول الانقلابيون اغتياله الا انه لم يصب سوى اثنين من حراسه .وفي الساعة الثامنة مساء اذيع البيان الحكومي الذي اشار الى القاء القبض على عراف عبد الرزاق ، في الموصل من قبل العقيد الركن عبد الكريم شندالة الذي ارسله مخفوراً الى بغداد، كما القى القبض على المجموعة التي اشتركت في محاولته الانقلابية الثانية صبحي عبد الحميد. كما طلبت الحكومة تعاون المواطنين في القاء القبض على عبد الكريم فرحان وهادي خماس وعرفان وجدي وغيرهم .وقد افاد المقدم الركن فاروق صبري الخطيب بعد سنوات عدة الى انه لافاتح عارف عبد الرزاق طالباً منه الهروب لكن الاخير رفض وعليه هرب مع خمسة من رفاقه اثننين نجحا في لاالهرب الى القاهرة واثنين القى القبض عليهما حينما حاولا الهروب باتجاه جنوب بغداد عن طريق بغداد – الحلة فتم القاء القبض عليهما عند اول نقطة تفتيش واثنين بقيا مختبئين هما هادي لاخماس وعرفان عبد القادر حتى صدر العفو عن المشتركين بالمحاولة الانقلابية .
وبذلك فشلت المحاولة الانقلابية الثانية رغم كل ما هيأ لها من عوامل لانجاحها . ويشير عارف عبد الرزاق ان اسباب فشل محاولته الانقلابية الثانية يعود الى عدم وجود ضباط من ذوي الرتب الكبيرة يقومون بتوجيه الضباط من ذوي الرتب الصغيرة والمراتب ،فضلاً عن ان اكثر الضباط تكدسوا في مبنى الاذاعة رغبة منهم في اذاعة البيان الاول .كما اشار الى ان عبد الرحمن عارف قد اتصل به خلال سيطرتهم على الوضع طالباً منه تفسيراً لما حدث فطلب منه عارف عبد الرزاق اسقاط الحكومة كشرط للتوقف .مهما يكن من امر فقد كانت الحركة الانقلابية ايضاً وكما حصل في المرة السابقة تهدف الى الغاء منصب رئيس الجمهورية وتشكيل مجلس وطني لقيادة الثورة فضلاً عن مجلس للوزراء ،وان يعين نائب لرئيس الوزراء كي يتفرغ رئيس الوزراء لواجباته الاساسية فضلاً عن بعض المهام الاخرى.
بعد فشل المحاولة الانقلابية الثانية فكر عارف عبد الرزاق بالانتحار مرة اخرى ،كما يذكر هو، لكن بعضًمن زملائه منعوه .ثم التقى بهم عبد الرحمن عارف الذي سأله عن اسباب قيامه بمحاولة انقلابية ثانية فاجابه بانه خلق للوحدة العربية ، سيموت في سبيلها
فور الاعلان عن فشل محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية انبرت الصحف لأدانة المحاولة ،وصفتها صحيفة الثورةالعربية بالمغامرة الطائشة مشيرة الى تصريحات رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز في تلك المغامرة لم تكن تستند الى اساس قومي ،وان هؤلاء ابعد ما يكونون عن الوحدة والقومية العربية بل هم اخطرعليها من اعدائها .وفي مقال اخر تحت عنوان “القاهرة وبغداد اقوى من الس والاشاعات “اشادت الصحيفة بتصريحات عبد الرزاق محيى الدين وزير الوحدة حول موقف الرجعية من احداث الوقيعة بين القاهرة وبغداد متهماً اياه بمحاولتها وضع اسفين بين القاهرة وبغداد.
بعد فشل المحاولة الانقربية الثانية اودع عارف عبد الرزاق في السجن ،دون محاكمة حتى 31 مايس 1967 حيث جرت عدة محاولات لاطلاق سراحه لكن عبد الرحمن عارف كان مصراً على اعتقاله .واثناء وجوده في السجن زاره المقدم ابراهيم الداوود وعرض عليه فكرة الانقلاب مرة اخرى على حكم الرئيس عبد الرحمن عارف ،وان يصبح رئيساً للجمهورية في حالة نجاح الانقلاب،شرط ان لا يفكر بالاشتراكية والوحدة مع مصرلكن عارف عبد الرزاق نهره وهم بضربة مشيراًالى انه في السجن بسبب تبنيه لهذه المبادئ فكيف له ان يتخلى عنها .كما زاره سعيد صليبى للعرض نفسه طالباًمنه التعاون مع البعثيين للقيام بانقلاب ضد حكم الرئيس عبد الرحمن، فطلب منه عارف عبد الرزاق منه مهلة للتفكير بالامر الا ان صليبى لم يأتهفي اليوم التالي ، ولما سأله عارف عبد الرزاق بعد ذلك عن اسباب عدم مجيئه اخبره انه لم ينم ليلتها وتوقع ان يغدر البعثيون بالجميع .ان قراءة بسيطة لاتصال تلك الطراف بعارف عبد الرزاق تعطينا مؤشراً واضحاً عن الثقل السياسي الذي يمتلكه لاحداث تغيير في المشهد السياسي في العراق.
في نهاية نيسان عام 1967 حضر الى بغداد رئيس الوزراء المصري زكريا محيى الدين ليطلع القيادة السياسية العراقيةعلى الوضع العسكري الاسرائيلي وقابل الرئيس عبد الرحمن عارف واخبره بنية اسرائيل للهجوم ،لذا طلب منه اطلاق سراح الضباط القوميين الذين ساهموا بمحاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية لا مكان الاستفادة منهم في الوحدات العراقية ،فاقتنع عبد الرحمن عارف بوجهة نظره وقرر اطلاق سراح كافة المعتقلين والمشاركين في المحاولة الانقلابية.وبعد عدة ايام على الافراج عنه اندلعت الحرب العربية – الاسرائيلية فتطوع عارف عبد الرزاق للقتال كطبار حربي وارسل الى الجبهة مع عدد من رفاقه ،وبعد عودته من الجبهة شكل مع الاخرين حزباً قومياً سرياً يرتبط بالتنظيم الطليعي الناصري في مصر غير ان قيام 17 تموز 1968 اطاح باماله وامال القوميين العرب في العراق.
في 24 تشرين الاول 1968 القى القبض عليه وبعد اربعة اشهرقضاها في السجن اضرب عن الطعام احتجاجاً .
مع ذلك استمر سجن عارف عبد الرزاق حتى 31 كانون الثاني 1969 حين اطلق سراحه، وكان من شروط الافراج عنه مغادرته العراق فاختار مصر كي تكون منفاه فغادر العراق في 19 شباط 1969 ، وهناك تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة في شباط 1972 ، وبقى يعيش بين مصر وبريطانيا لاكثر من سبع وثلاثين عاماً ورغم بقائه هذه المدة الطويلة في بريطانيا غير انه لم يبذل جهوداً للحصول على الجنسية البريطانية املاً في العودة الى العراق.
توفي عارف عبد الرزاق في مستشفى رويال بركشاير في مدينة ردينغ البريطانية اثر نوبة قلبية يوم الجمعة 30 اذار 2007 وسط اسرته ليسدل الستار على “شخصية سياسية مثيرة للجدل عرف عنه نزاهته وكرمه وشجاعته وكفاءته كابرز طياري العراق بل يشير بعض المؤرخين بان عارف عبد الرزاق يعد افضل من قاد القوة الجوية العراقية”.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة