تماسك الافكار وترابط النسيج الداخلي في(نذير الدرويش)

علوان السلمان

السرد الروائي أفق تخييلي..ايهامي متجاوز للمألوف..كاشف عن الممكنات الجمالية بابتكار الرؤى والتعابير المكتنزة بالمضامين الانسانية التي تستفز الذاكرة وتحرك خزينها المعرفي لتحقيق المتعة الروحية والمنفعة الفكرية عبر التساؤلات المنبثقة من الرؤية التصويرية للواقع الاجتماعي والرمز والدلالة النصية والاشارة السيميائية..
و(نذير الدرويش) النص السردي الذي نسجت عوالمه ذهنية السارد ناهي العامري الحاضر في واقعها..واسهمت دار امل الجديدة في نشرها وانتشارها/2018..كونه نص تحكمه مجموعة من الانساق التي تصنع فضاءاته الدلالية وابعاده الجمالية ببنية مورفولوجية توزعت على تقنية المكان المغلق بست جلسات علاجية(داخل المشفى) للسارد الراوي(طالب..) الذي شكل بؤرة السرد التي تتمحور حولها خيوط السرد بكل مكوناتها وتشكيلاتها..والمكان المفتوح المنحصر في كبوة الوهم(الحدث ومرتكزاته الثلاثة(سحر والرئيس والزعيم)..( مثل شهاب ملتهب شق فضاء معتما انطلقت سيارة صفراء صغيرة تقطع المسافات وسط سكون موحش يطبق على ليل المدينة.. وبين قبضتيه أحكم السائق على مقودها بعد ان تردد معتذرا عن اداء المهمة قبل ان يغريه مرافقا المريض بمضاعفة أجره..واقنعاه بسلامة الطريق..)/ ص7..
والانتقال الى خارج المشفى حتى نهاية الجلسة الخامسة والسادسة التي تنتهي بزوال الوهم..(لم يشأ طالب ان يخبر سامح بأنه ازداد اصرارا على معاودة تحقيقه في هبة الرئيس..)/ص205..
(عند ظهيرة اليوم التالي زار الطبيب الاستشاري برفقة الدكتور سامح ردهة المرضى معاينا حالاتهم ومتفحصا استماراتهم السريرية على انفراد كي يتأكد من مطابقة دواء المريض مع حالته الخاصة..في تلك اللحظات أفاق طالب من رقدته..تململ على جنبيه..حرك اطرافه الى جميع الاتجاهات..أطلق أنينا خافتا..أخذ يتصاعد..أعقبته لازمة استغاثة : أغيثوني..أدركوني..انهم ورائي. أخذوا بخناقي..
لفت ذلك انتباه الطبيب الاستشاري فدنا منه وتبعه الدكتور سامح الذي استدرك الامر وراح يشرح حالة طالب الطارئة واصفا اياها بالاستثنائية على اساس ان الراقدين جلهم من ارباب السوابق في معاناتهم النفسية وتعاطيهم الكحول والمخدرات..فيما انفرد طالب باصابة عقلية مفاجئة بعد حياة سوية لصحفي زاول مهنته بحرفية وانضباط عاليين بحسب شهادتي شقيقه وجاره)..
فالسارد يتحكم في تسيير الاحداث والشخوص عبر الحوار بشقيه(الذاتي والموضوعي) وهو يتغلغل في اعماق الحياة الاجتماعية ويستبطن المعاناة مركزا على مأساة الانسان واغترابه..وازمة الذات الواعية في تمثلها لمقتضيات دورها الاجتماعي والثقافي فتتجاذبه قوتان: اولهما قوة الحفاظ على القيم لتحقيق الحلم..وثانيهما الذوبان في واقع اجتماعي منهار..لخلق نص ينمو متصاعدا في عرض سيرة شخصية طالب مع حضور الغرائبي الذي يشكل تنوعات كيميائية لمقاطع من الحياة والوعي تبعا لتداعيات الشخصية وهواجسها..
(منذ لحظة افتراقي عن سحر والزعيم عند تلكم الاريكة في حديقة الامة عزمت على جمع حصيلة لقاءاتي الميدانية بخصوص هبة الرئيس التي استنتجت انها وهمية كي تكون تحت يدي فأبادر الى تسليمها لسحر خلال اول لقاء قريب معها..نعم أعترف لقد همت بها منذ ذلك المساء فهيمن على صفحة ذاكرتي خيال وجهها الطفولي الفاتن الذي ينث انوثة وبراءة وورعا..حتى انني رسمت في مخيلتي ان صوتها سيناديني عبر الاثير..وحين اوشكت ايام الاسبوع ان تنقضي من دون ان تتصل بي راحت روحي تنازعني على فكرة الاتصال بها لكني اعود لكبحها خوفا من احراجها بموقف لاتحسد عليه..وكي اتجرع الساعات التي تمر ثقيلة علي عللت نفسي بأمل لقائها خلال التظاهرة اللاحقة في ابعد الاحوال فسلمت امري لهذه القناعة..بيد ان صبري اوشك على النفاد وقلقي اشتد عليها ما ان حل مساء الخميس وبين كر وفر رحت اتنازع مع هواجسي التي اخذت تتنامى مع دقات عقارب الساعة الجدارية المثبة على جدار غرفتي ولا ادري اية لحظة تلك التي توقف الزمن عندها بعد الدقة السادسة حينما شعت شاشة نقالي بورود رسالة منها(موعدنا غدا)…ص134 ـ ص135..
فالسارد يخاطب الوجدان في رحلة الحياة ومحطاتها بلغة تخلق جوا من التفاعل اللاشعوري بين المستلك(المتلقي)والنص الذي شكله البوح بتعابير مندافة بقلق نفسي..مع قوة استعادة الاحداث المضمرة التي اختزنت في اللاشعور واصبحت مصدرا لانتاج سردية مشحونة بالصور والمواقف التي تمزج بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي عبر واقعية الحدث..فضلا عن انه يعالج شكلا من اشكال الاسقاط النفسي مع محاولة اضفاء مسحة من الترميز عليه بتصوير الهواجس الداخلية للشخصية..اضافة الى توظيف عنصر الحركة الذي يشكل احد معطيات المستوى الحسي للغة السارد الذي وظف الاشياء بطريقة موحية اسهمت في تطوير البناء الدرامي للسرد اذ توظيف الجزئيات للكشف عن دخيلة الشخصية وتطوير الحدث مع تركيز على الجوانب المعتمة في الانسان الذي يبرز كوحدة اساسية..مع ارتكاز على راو عليم يبحث في الامكنة بلغة فنية بعيدة عن الاقتحام عبر شخوص نابضة بالحياة كونها تحمل موقفا ورؤية للوجود..وهذا يعني ان السرد يسير بخطين متداخلين هما:الوصف التصويري وتجسيد الخيال..
(انعطف طالب بوجهه نحو سامح ناحتا ملامحه بذهول وقناعة لمن استسلم اخيرا..
ـ الاولى حقيقة والثانية وهم
ـ نعم الحقيقة لا الوهم
ـ واشتباكي الذهني؟
ـ …
ـ ما مشروعك المستقبلي؟
ـ في اوانه
لم يشأ طالب ان يخبر سامح بأنه ازداد اصرارا على معاودة تحقيقه في هبة الرئيس..ذات الاراضي السكنية..يحدوه أمل بألا تكون مهمته عسيرة حين البحث عن الدرويش كي يكون طرفا خطيرا في هذا التحقيق /ص205..
فالبناء السردي الذي اعتمده السارد الحلم والحوار الداخلي الطاغيان على احداث السرد.. اذ من خلالهما يكشف عن الحالة النفسية للشخصية التي تصر على مواجهة مصيرها وتحدي ذاتها..مع تميز بالقدرة على تحليل نفسيات الشخوص وتماسك الافكار وترابط النسيج الداخلي للنص..فضلا عن تصوير المشاهد والانتقالات عبر فضاءات متباينة في تصوير الفوضى التي تضرب عمق الانسان في ذاته ووجدانه..
وبذلك قدم السارد نصا سرديا قائما على شكل خطوط متوازية تتصاعد بعفوية..اضافة اعتماده الجملة المفتوحة في نهاية كل فضاء(مفتوح او مغلق) لشد انتباه المستهلك(المتلقي)..وممازجته ما بين السيرة والسرد الروائي بوصف السلوكيات الانسانية واعتماد الانتقالات المكانية وتغيير المشهد الدرامي داخل المتن الحكائي الذي يجمع ما بين المنظور الموضوعي والسايكولوجي ..مع ادانة للواقع الاجتماعي والسياسي عبر محطات الحب والخوف..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة