التفاعل بين السلطة التنفيذية والكونغرس الأميركيين والعلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية

المواجهة الحاسمة في قضية خاشقجي:
دانا سترول

كان الثامن من شباط/فبراير الموعد النهائي لرد إدارة ترامب على استفسارات الكونغرس الأيمركي بشأن مقتل المواطن السعودي والكاتب في صحيفة «واشنطن بوست» جمال خاشقجي. وقد مرّ هذا التاريخ، ولم يُقدّم سوى القليل من الوضوح بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة ستفرض عقوبات إضافية على المملكة العربية السعودية أو أيٍّ من مسؤوليها. وإذا ألقينا نظرةً أكثر تفحصاً على آلية النزاع المستمر، وجدنا خلافات أوسع بين فرعي الحكومة الأمريكية حول دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بما تحمله من تأثيرات محتملة غير متوقعة على عدد كبير من مقتضيات السياسات العامة.
اقتباس «قانون ماغنيتسكي»
وسط أدلة متزايدة على ضلوع الحكومة السعودية في جريمة القتل، قام الرئيس السابق لـ «لجنة العلاقات الخارجية» في مجلس الشيوخ الأميركي بوب كوركر (جمهوري من ولاية تينيسي) والعضو الأقدم عن حزب الأقلية بوب مينينديز (ديمقراطي من ولاية نيو جرسي) بتوجيه رسالة إلى الرئيس ترامب في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر اقتبسا فيها «قانون ماغنيتسكي الدولي للمحاسبة على انتهاكات حقوق الإنسان في العالم». ويتطلب هذا القانون من الرئيس الأميركي أن يقرر، بناءً على طلبٍ من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ما إذا كان شخص أجنبي مسؤولاً عن قتل أو تعذيب شخصٍ يمارس حرية التعبير، أو عن ارتكاب أي انتهاك فادح لحقوق الإنسان بحق هذا الشخص خارج إطار القضاء واختصاص المحاكم.
كما يعطي هذا القانون مهلة للرئيس الأميركي أمدها 120 يوماً لإصدار قراره، ويجيز فرض عقوبات على أي أشخاص يعدهم الرئيس مسؤولين عن الجريمة المرتكبة، ولكنه لا يتطلب فرض مثل هذه العقوبات. وحين وقّع الرئيس أوباما على «قانون ماغنيتسكي الدولي» عام 2012، أعرب عن قلقه من احتمال حدوث تجاوزات في الكونغرس، وأشار إلى أنه سيحافظ على حقه بـ «رفض التصرف بناءً على هذه الطلبات عند الاقتضاء».
وفي 20 تشرين الثاني/نوفمبر، صعّد كورك ومينينديز الضغوط حين وجّها رسالة إلحاقية طلبا فيها من الرئيس ترامب أن «ينظر بالتحديد» فيما إذا كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان متورطاً في مؤامرة القتل. وقد أدّى هذا الطلب إلى تمهيد الطريق أمام قيام مواجهة بين السلطة التنفيذية والكونغرس الأميركيين.
ردّ الإدارة الأميركية
على الرغم من أن مسؤولي الإدارة الأميركية قد دعوا الحكومة السعودية لإجراء تحقيق مناسب ويتّسم بالشفافية في مقتل خاشقجي، إلّا أن الرئيس ترامب أصرّ في الوقت نفسه – بكل وضوح في تصريحه في 20 تشرين الثاني/نوفمبر – على أنّ شراء المملكة للأسلحة الأميركية والتزامها بمواجهة إيران يتطلبان شراكة ثنائية «ثابتة». إضافة إلى ذلك، تخشى الإدارة الأميركية إلقاء اللوم صراحةً على الأمير محمد بن سلمان «بشأن مقتل خاشقجي» لأن من شأن ذلك أن يقوّض مجموعة من المصالح الأميركية الأخرى، نظراً للطبيعة المركزية لآلية صنع القرار في السعودية ولأن ولي العهد يضطلع بدورٍ جوهري في مبادرات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في عدة وزارات.
وفي رسالة خاصة بعثها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى مشرّعين مختارين في الموعد النهائي المُحدّد في الثامن من شباط/فبراير، أشار الوزير إلى أنه تم بالفعل اتخاذ تدابير عقابية بحق 17 سعودياً في 15 تشرين الثاني/نوفمبر لدورهم في جريمة القتل، ومن بينهم مستشار مقرّب جداً من الأمير محمد بن سلمان. وعند الإعلان عن هذه العقوبات التي فُرضت بموجب الأمر التنفيذي الرامي إلى تطبيق «قانون ماغنيتسكي الدولي»، أقر وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين بأن التحقيقات الأميركية في الجريمة ستستمر، وأن الإدارة الأميركية «ستحاسب كل واحد من أولئك الذين نجدهم مسؤولين».
ومع ذلك، لم تتناول رسالة بومبيو الطلب الذي دعا خصيصاً إلى تحديد ما إذا كان الأمير محمد بن سلمان نفسه مذنباً فيما حدث. وبما أن اسم المستشار االمقرّب لولي العهد مدرجٌ على قائمة المتهمين، فإن العديد من المشرعين ومتتبعي الشؤون السعودية كانوا متشككين في أي نتيجة تفضي إليها التحقيقات والتي لا تربط الأمير بن سلمان بالجريمة بشكل ما، سواء بمنح موافقته عليها أو بعلمه مسبقاً بها. وفي الواقع، زاد البيت الأبيض من تفاقم الحالة واستياء المشرّعين من كلا الحزبين («الجمهوري» والديمقراطي») على حد سواء حين أصدر علناً تصريحه الخاص في 8 شباط/فبراير، رافضاً بنحو أساسي دور الكونغرس في المطالبة بمحاسبة المذنبين في جريمة القتل، واستعماله لغة مشابهة لتلك التي استعملها الرئيس أوباما من قبله ومفادها «يحتفظ الرئيس بسلطته التقديرية في رفض التصرف بناءً على طلبات لجان الكونغرس عند الاقتضاء». ضغوطٌ كثيرة من أعضاء الكونغرس لا بد من الإشارة إلى أن مسار التصادم السياسي بشأن السعودية لم يبدأ مع قضية خاشقجي. فعلى مدى العامين 2017 و 2018، ناقش الكونغرس الأميركي عدة تدابير تهدف إلى الحد من الدور الأميركي بدعم عمليات التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن. وشملت تلك القرارات عدم الموافقة على بيع الأسلحة، ودعوات إلى انسحاب القوات الأميركية من جميع العمليات التي لا تركز على تنظيم «القاعدة»، وإصدار مصادقة تتعلق بسلوك القوات التي تقودها السعودية وممارساتها. كما اتخذ المشرّعون خطوات تتعلق بقضايا حقوق الإنسان، وتعامل حكومة الرياض مع أزمتها الدبلوماسية المستمرة مع قطر، ونقص المعلومات المتعلقة بمفاوضات الإدارة الأميركية مع الحكومة السعودية بشأن اتفاق نووي مدني. وفي الوقت نفسه، دافعت هذه الإدارة بنحو عام عن الوضع الراهن – وعد هذا الموقف خطوة تلقائية لحماية العلاقة الثنائية بين البلدين، ورفْضْ الانخراط مع الكونغرس بشأن مخاوفه رفضاً قاطعاً.
وفي أعقاب اختفاء خاشقجي، أثارت الرسائل المتغيرة من الرياض والبيت الأبيض انتقادات الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) على ردّ الإدارة الأميركية، اذ تحوّلت هذه الانتقادات في النهاية إلى نقاش أوسع نطاقاً بشأن المنفعة الاستراتيجية للعلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية. وركّز أعضاء الكونغرس على الأمير محمد بن سلمان – ليس فقط فيما يتعلق بدوره المشتبه في عملية القتل، بل أيضاً في قدرته على تولي القيادة بشكل ثابت في منطقة غير مستقرة على نحو متزايد. على سبيل المثال، تعهّد السيناتور ليندسي غراهام (جمهوري من ولاية كارولينا الجنوبية) بعدم زيارة المملكة طالما يمسك الأمير محمد بن سلمان بالسلطة. إضافة إلى ذلك، اندمجت قضية خاشقجي مع شعور الكونغرس والناشطين السياسيين على حد سواء بقلق واسع النطاق بأن الإدارة الأميركية تعمل على رفع الأولوية عن حقوق الإنسان بوصفها دعامة لانخراط الولايات المتحدة، سيما في الشرق الأوسط. لقد اختتم الكونغرس أعماله عام 2018 بسلسلة من الإجراءات في إطار السياسة الخارجية التي تركز على السعودية. فقد قامت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين الجمهوري والديمقراطي باعتماد تشريع واسع النطاق للحد بشكل كبير من انخراط الولايات المتحدة في اليمن مع فرض عقوبات إلزامية على أولئك الذين يثبت تورطهم في مقتل خاشقجي.
وكان مشروع القانون ملفتاً في رسالته -فالكونغرس لم يثق بقيام الإدارة الأميركية بالمطالبة بمحاسبة جدية على جريمة القتل أو بسعيها بنحو موثوق إلى تحقيق تسوية سياسية في اليمن.
وعلى الرغم من أنه لم يحدث تقدّم في مشروع القانون، إلّا أنه اتُّخذت تدابير أخرى في نهاية العام المنصرم لتناول القضايا نفسها. فقد اتخذ مجلس الشيوخ قراراً يطالب بانسحاب القوات الأميركية من الأعمال العدائية في اليمن فضلاً عن قانون آخر يلقي اللوم صراحةً على الأمير محمد بن سلمان في مقتل خاشقجي. وكان هذا القانون الأخير مستفزاً بما يكفي لدفع الحكومة السعودية إلى إصدار بيان رسمي رفضت فيه التدابير التي اتخذها ‎مجلس الشيوخ. وكان يفترض بهذه التطورات مجتمعةً، كونها انبثقت عن مجلس الشيوخ الذي يخضع لسيطرة الجمهوريين، أن تنبّه الإدارة الأميركية إلى تعاظم الضغوط قبل حلول الموعد النهائي الذي ينص عليه «قانون ماغنيتسكي» هذا الشهر.
ما الذي يمكن توقّعه هذا العام؟
إن مطالب الكونغرس لمحاسبة المتورطين في مقتل خاشقجي لن تتبدد في أي وقت قريب، وفي الواقع، من المرجح أن تستمر بالتداخل مع قضايا اليمن وغيرها من الاهتمامات الثنائية على غرار التعاون النووي المدني. ومن ناحية مجلس النواب الذي يسيطر عليه الحزب الديمقراطي فهو مؤهل لتأدية دور إشرافي فريد قد يسبب عدم ارتياح للبيت الأبيض وللحكومة السعودية بنحو خاص. وقد أدلى رئيس «لجنة الشؤون الخارجية» في مجلس النواب الأميركي إليوت إنجل (ديمقراطي من ولاية نيويورك) بتصريح يُنذر بالشؤم وينتقد رد الإدارة الأميركية على الموعد النهائي المحدد في الثامن من شباط/فبراير اذ قال إن «رفض الإدارة الأميركية التعامل مع هذه القضية وإبقاء الكونغرس على اطلاع يؤكد الحاجة إلى اكتشاف دوافع السياسة الخارجية «للرئيس» ترامب.
وتجدر الإشارة إلى أن مجلس النواب أصدر قراراً في 13 شباط/فبراير بشأن صلاحيات شن الحروب طالب فيه بإنهاء الدعم العسكري الأميركي للتحالف السعودي في اليمن. وقد صوّت العديد من الجمهوريين مع الأغلبية الديمقراطية، في حين لم يتوانَ الراعي الرئيس لمشروع القانون رو خانا (ديمقراطي من ولاية كاليفورنيا) عن الربط بوضوح بين هذه الخطوة وإدانةٍ أوسع نطاقاً للسياسة السعودية، إذ قال: «هذه إحدى الطرق الكفيلة بإظهار عدم موافقتنا على ما تقوم به السعودية». والآن أصبح الطريق ممهداً أمام مجلس الشيوخ لإقرار مشروع القانون الذي طرحه مجلس النواب في الأيام المقبلة. وفي حين سيقوم الرئيس ترامب بنقضه حتماً، إلّا أنه يتعيّن عليه أن يدرك التغير الشاسع الذي يمثله لمجرد أنه سيُرْسَل إلى مكتبه من قبل كونغرس منقسم.
فلطالما كانت المشكلات التكتيكية مع السعودية تعالَج وراء الأبواب المغلقة ولكنها أصبحت حالياً موضوع توافق علني بين الحزبين حول إعادة تقييم ما إذا كانت هذه العلاقة ما تزال تخدم مصالح أميركا. ويقيناً أن الانقسام في صفوف الكونغرس يمنعه من إرغام الإدارة الأميركية على اتخاذ إجراءات محددة أو إحداث تغيير أساسي في التزام الرئيس ترامب بتوطيد الشراكة مع السعودية. ولكن استمرار الجلسات والتحقيقات ومشاريع القوانين والتعليقات العلنية التي تركز على السعودية قد يضعف هذه العلاقة ويدفع الرياض إلى تعزيز روابطها مع الدول التي تعارض المصالح الأميركية. من هذا المنطلق، ينبغي على أعضاء الكونغرس – سيما الملتزمين بالدور القيادي للولايات المتحدة في العالم والمترسخ في شبكة من التحالفات والشراكات – أن يدركوا تماماً النتائج المترتبة على انحسار العلاقة مع السعودية.
والاسئلة التي تطرح نفسها هنا، هي: هل تتحمل الولايات المتحدة تراجع نفوذها لدى الحكومات العربية في وقت تسعى فيه الإدارة الأميركية إلى زيادة العقوبات على إيران، وفي الوقت الذي يأمل فيه الكونغرس في فرض المزيد من العقوبات على روسيا، وحيث لا تظهر علامات على تبدد التوترات الاقتصادية مع الصين، وعندما تتعثر العلاقات بين الدول على جانبَي المحيط الأطلسي؟ هل بإمكان واشنطن تحمّل التكاليف الاستراتيجية المترتبة عن دفع الشركاء المغتربين إلى أحضان خصومها الخطرين؟ هل تستطيع الولايات المتحدة تحقيق الأهداف المتعلقة بأمنها القومي في الشرق الأوسط في غياب قدرتها على التواصل مع كبار الزعماء في الرياض؟ من دون إصدار حكم مسبق على الإجابات على هذه الأسئلة الحاسمة، يجب على السلطتين التنفيذية والتشريعية في الولايات المتحدة الدخول على نحو عاجل في حوار صادق بشأن التوصل إلى نتيجة مقبولة، ليس فقط بشأن مقتل خاشقجي، بل بشأن مستقبل العلاقات الأميركية -السعودية أيضاً.

دانا سترول: زميلة أقدم في «برنامج جيدلد للسياسة العربية» في معهد واشنطن، وهي موظفة أقدم سابقة في «لجنة العلاقات الخارجية» في مجلس الشيوخ الأميركي.
معهد واشنطن

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة