الحضور الشعري واستنطاق الذات في (أنا راء المعنى)

نصير الشيخ

هل الشعر هو مسافة تأمل، ومن ثم صوغ القول الشعري نصاً او قصيدةً؟ أم أنّه اشتباك مع وقائع الحياة ومفرداتها، وبالتالي تدوين جزئياتها عبر لغة رمزية واستعارية تختار مساحتها المتفردة؟
راقية مهدي في حضورها الشعري عبر مجموعتها البكر (أنا راء المعنى ــ ما قالته شهرزاد للعابر) تنتمي لذاتها عبر تمركزها الروحي في زاوية النظر الى الأشياء وهي القاطنة بالقرب منها، فهي تحاول في نصوصها ايجاد آخر لا يشبه روحها، ولا يكون مناجاة لكلماتها، آخرُ تتم مواجهته، عابرة هذه المواجهة باتجاه عاطفة أنثوية تكبح من قبل الذات الشاعرة مما لا تجعلها تنساح على مرأى المارة، وهي بقدر وجودها ك (أنا) فهي (آخر) يمر عبره(سردياتها) التي تقطر شعراً، وكأنها تنحاز الى ركن صافٍ في النظر الى الأشياء والموجودات والوقائع، بل وحتى في النظر الى الحب! وكأنها تقطر سلافة هذه العناصر في نصوصها، فهي تطل علينا ب (راء المعنى) باستعارة رمزية للحرف الأول من اسم الشاعرة/المرأة الذي سيقودنا لتقمص دور أكبر الا وهو (شهرزاد)، ذلك سنشهد من خلاله (قص) لحيوات ومشاهد هي صور شعرية تكوّن خطاطة المجموعة الشعرية ((انا راء المعنى… ما قالته شهرزاد للعابر))، في لحظات متطامنة، يتم خلالها استدعاء الآخر في لحظة كشفٍ، وهذا ما تجلى في نصها الأول من المجموعة (مائدة الشعراء): (فتحت أبواب مدينتي/ وأعددت الأطباق والصحون/ للشعراء الملعونين/ المطرودين من الفردوس) ص11
استدعاء الشعراء هنا، هو استحضار حداثي ونوعي للحلم الإنساني الذي يمثله هؤلاء، كل في تجربته المتفردة وكيمياء اشتغاله وسعيه الجمالي لخلق الذائقة الشعرية وتحقيق مشروعية نصه الشعري الذي دونه، وكتب له الخلود على مر هذه السنين، لتختم نصها بسؤال وجودي لا يخلو من أسى:
(حين غادروا، صحت وراءهم بصوتي المخنوق/ الى اين تمضي هذه القصيدة/ بهؤلاء الشعراء؟) ص14

خاتمة النصوص
من هنا تضع الشاعرة خاتمة لا لنصها الشعري الذي كتبته، بل لضياع الحلم الإنساني، ومغادرة مبتكريه الشعراء.
(قيل لي أنّ السماء هي ذاتها/ وقيل ان الرسائل لم تخطئ جهاتها الأربع) في نصها (السائل التي ضلت الطريق) ص. 18 ثمة ما نجدد القول بشأنه من السماء هي التسامي، وهي الآخر المتناهي، وهناك جهات ارضية تدور عندها رحى حرب لا ينطفئ أوارها، حيث المصائر والرسائل تتوزع باتجاه الجهات الأربع. ذلك ان ثمة مقابر امتلأت بأسماء الجنود، لكن رسائلهم لم تصل..هكذا.. مادامت هناك طلقة أخيرة تجهز على حلم اللقاء.
الإصغاء الى نداءات الروح الخفية شأن من شؤون الذات الشاعرة، المحلقة في عوالمها، والباثة لمجساتها، والمكتملة رؤاها… من هنا يصبح التعبير الشعري قولا بلاغيا في صوغ هذا الهدير القادم من الاعماق، حيث اندغام الذات مع مفردات الطبيعة في تجلياتها، وكأن بالشاعرة هنا ((بوذا)) جديد يتأمل ويشارك الأشياء وجودها وبهجتها.
(ها أنا أغادرحفلة الضوء في السنابل/ وعبق البخور في أصص البيلسان اختار منفاي في البرق/ هذا الصوت / هذا الصمت) نص النهر الجريح ص24
هذا الأندغام مع مفردات الطبيعة والمغلف برومانسية تصف الأشياء وتحولاتها، يعود بنا تدريجيا وعلى حين غرة الى كهوف سحيقة للذات الشاعرة وتعالي صرخاتها في التقاطة شعرية كسرت ايهام توقع القارئ المصغي لتلك النداءات (العشب، الوردة الحمراء، الزنبقة البيضاء، البيلسان…) لينغمر المشهد الشعري هذا بتحول سوداوي يعود بنا القهقرى لتاريخنا المدمى ومدننا الموحشة تحت سياط الحروب.
(منذ ذلك الزمن المنسي/ مازالت مرثية خرائب سومر/ مازال الدم المسفوح دمي/ومازال نرام سين يطاف به دروب الغاصبين الضيقة/آآآهٍ، لم لآتات الطيور ثانية) ص26.

الأسطورة والمكان
تمضي الشاعرة في اجتراح عوالمها وهي كلما تقدمت في نصوصها تفتح أفقاً شعرياً كي تعبئ فيه الكثير من الرؤى، وهاهو نص(الغياب) حيث التماهي حاضراً هنا، كتجربة إنسانية تستعير صيغتها الأسطورية وسط حضور مكاني يشي بهذا الجو الأسطوري الرمزي الذي لا يغادرفضاءه الرافديني.
((أتدثر بهمسك/ ورأسي مضمخ بعطور عشتروت/ لعل تموزها يطلع/ من باب موتي الأخير)) ص32.
وتبقى أسئلة الشعر صاخبة، من يعيد وجه الحياة التي نأمل، ان لم نقل ما نريد ونبغي..؟ والشعر هو الحضور المتجدد في بعث هذا الأمل عبر طاقته المتفردة، ورسمه عوالم محلقة بإنسانية الفرد، وما تبثه من تسامي لقدرة اللغة على ابتكار هذه العوالم الأكثر التصاقاً بالتعبير عن هموم الإنسان وتطلعاته.
في نصها((الطوفان)) تؤكد راقية مهدي انتماءها لروح الحياة عبرأغنيتها المستخلصة من عنوان يشي بالعنف والدمار، لتنتصر للحب فيما بعد، وكون الإنسان عاشقا هذا يعني حضوره لصنع حياة وتاريخ (روحاً وجسداً)
((حين يغدو الإنسان عاشقاً/ تبدو المضاجع مفعمة بالعطور الناعمة/ حين يغدو الإنسان عاشقا/ يصيرنبياأو أفعواناً راقصاً على قصبة)) ص44
تستكمل الشاعرة راقية انتماءها الصميمي لمفردات الوجود، كل هذا يمنحها طاقة الشعر عبر الدخول الى الأشياء، والشخصيات، والمعتقدات، والمفردات الحياتية المحيطة بنا، والتي اسست ثوابتها في الخيال الجمعي كتراكمات رمزية، ففي نصها ((متاهات)) تحضر هنا {شهرزاد} كاستعادة ماثلة لنا في العنوان الرئيس للمجموعة وهي التي ظلت تقول للعابر…هذه أنا. عبر رقعة مكانية هي (الكرخ) في توكيد للذات، وجوداً وشعراً وموقفاً، مستعيرة جملة أسمية أدونيسية تنفتح على أفقٍ أوسع ((هذا هو اسمي)) ليتوالى الحضور الرمزي عبر شخصية {أوفيليا} ودلالتها في موقعة الحب كتجربة ومفهوم أسمى، لتبدأ اللعبة الشعرية عبر امتزاج الذات الشاعرة بهذا الرمز الإنساني حدّ التماهي.
((قلت لهم هذا هو اسمي/فخذوه/ كي تغطوا به جسد أوفيليا التي رماها الموج/ وحيدة/ انا التي يتقمص شبحها أو يتقمصني شبحي/ سيّان)..وهنا كان للشاعرة ولرسوخ المعنى ووضوحه ولضبط جملتها بلاغيا ان تقول (انا التي اتقمص شبحها، او يتقمصها شبحي)..!! فأدخلتني وأخرجتني من فراديس المحيطات/ المكتظة بالأسئلة)) ص56.

المواجهة والصراع
في مواجهة دائمة بين الشاعر ورؤاه الكثيفة، التي امتدت على طول سواحل الشعر وتخومه، مواجهة تتحول الى صراع وجودي، بين الذات ومركزها العاطفة، وبين ضخ الأفكار المتأتية من سعة إحساس الشاعر وملامسته لمفردات الواقع، ونص((قبائل)) هو تجلي لهذه المعادلة عبر نص مكتنز عَبّرَ بالذات الشاعرة من كونها {وجود عيني} الى افق ابعد وأرحب (عالم القصيدة).
((النفس أمارة بالعزلةِ/ وقبائل الشوق تقرع طبولها الراقصة/تحتشد في أنفاسي البروق/بكل نبوءات العرافات/ كيف لي ان اقنعها بأن القصيدة لم تكتمل/ يا لهذا الليل الطويل.. الطويل)). ص71
إزاحة الذات الشاعرة كونها معبرا عن الفهم الوجودي والشخصي، لايلغي حضور المرأة كتجسيد عياني في لعبة تماهي، فهي تغيب وتحضر في معادلة متوازنة يحكمها حس كتابي، ووعي خالص بمديات النص، مستفيدة من تنويع الفكرة وشعرنتها وتحويلها فيما بعد الى أثر كتابي يقترح تصوراته وشفراته، ويبعث برسائل الى متلقي يقف في كل مرة أمام دهشة النص، في بوحه العالي، وفي توقيعاته الشعرية، وفي انسياحهِ كفكرة وجودية تستظل برؤى الشعر…كل هذا تدلنا اليه (راقية مهدي) بالعودة بنا الى ينابيع الشعر الصافية.
((كلما حاولت أن ابتدع الرؤى/ وشيدت سجناً من جدار الشمس/ اقتلعتني العاصفة/ واحرقت حلمي الصاعقة/ فما زالت رطوبة الليل تفوح من احلام المدينة)) نص (محاولة اولى) ص91.
ولأن الذات الشاعرة تعوم في مدياتها الجمالية وصولا لتحقيق مفهومها عن الحياة التي تريد، يستكمل نص (محاولة ثانية) هذا المفهوم، وتوكيد المرأة كوجود مكتمل عبر سعيه لمواصلة التجذيف عند المصبات البعيدة، والعبور الى اشعة النور واستنشاق عبير حياة خصبة.
((كلما أوشكت أن ألمس ذلك الحجر…/ عوتْ ذئاب الشعر/ وصاحت ديكة الفجر فوق تماثيل من رخام/ فأستفيق… لقد انتهى الحلم/ فالبراعم الصغيرة ماتزال نائمة)) نص (محاولة ثانية) ص 95.
تراتبية هذه النصوص الثلاثة أوصلت الشاعرة الى تعيين مركزها كذات لها حضورها المتجدد، وما الشعر الا فضاء سابحة فيه رؤاها، غير منقطعة بالطبع في التحديق بعوالم الواقع ومنحدراته، في سعي واجتهاد لفتح أكثر من كوة ونافذة للأطلال منها على الحياة التي تريد، وبما تستشرفه كرؤى تعيد إنتاج جمالاتها.

استحضار الرموز
وما الشعر الا غاية الغايات لسموهِ في تحقيق الذات وشؤونها، في نص(قالت) تنعطف راقية مهدي لمنطقة أكثر جدة، حيث حضور (التناص) الديني بشكله المكثف، عبر استخدام الشاعره ذاتها متمثلة ب(قصيدتها) كمفتتح لفعل يتنامى مع رمز ديني تستحضره، ممثل في النبي (موسى){ع}، وحضوره في النص الإسلامي والتوراتي. هذا المعادل الموضوعي الذي استكمل جماليته الشعرية عبر انزياح لغوي ومعنوي ودلالي، وبخاتمة شعرية لا تخلو من مفارقة…
((تلك هي قصيدتي/ عصاي، أتوكأ عليها/أنظر هناك الى الرابية/ تراني في غيمة زرقاء/ كيف أهشُّ بها على غضبي)) ص99.
يظل (التخيل) مدى واسعا له قدرته على اللحاق بهذا الدفق الروحي لإنتاج معادلة كونية، تؤكد للإنسان قيمته العليا، والشاعر هو الصائغ الأمهر على ابتكار لغة ناصعة لكتابة هذا السِفر الإنساني، والمرأة هذا الحضور المتجذر في مديات العاطفة والتاريخ والوجود على حد سواء، متمثلة قيمتها المعنوية من تجربتها وحضورها وحلمها المتجدد…
((أكان من الممكن قطف أصابعي ندما/ وانثرها احتفاءً بذكرى السائرين في النوم/ أمن العدل ان أرمي آخر شباكي في هواء متفحم/ وأعود خالية من زمني الطريد/ قبل ان ينضج الحلم)) نص (تساؤلات) ص119.
في مجموعتها الشعرية البكر ((أنا راء المعنى/ ما قالته شهرزاد للعابر)) قدمت لنا راقية مهدي، متنا شعرياً، ومصفوفةً كلاميةً، خرائطها نصوص مكتنزة الرؤى، عابرة منطقة البوح الواضح، الى ما هو أسمى وأبلغ وهو معاينة الأشياء والموجودات.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة