أنمار رحمة الله
أنا حذاء فاخر، هذا ما صرح به صاحب المحل الذي كنت معروضاً في إحدى خاناته الزجاجية. لا أتذكر بالطبع أصلي وفصلي، من جلد أي حيوان صُنعت، حتى عرفت هذه التفاصيل لاحقاً من صاحب المحل بالطبع، لكثرة ما تحدث عن نشأتي للزبائن، وخصوصاً الأمهات اللواتي يأتين برفقة أولادهن. شعرتُ بالحزن، لقد بيعت أحذية وجاءت أحذية أخرى، وأنا بقيت على حالي، أودعُ وأستقبلُ، هذا بالطبع بسبب ثمني المرتفع، والذي تهرب من دفعه اغلب الزبائن. حتى جاء اليوم السعيد بالنسبة لي على الأقل، حيث سأنجو بجلدي من محل الأحذية الرتيب، وصاحبه الذي لاهم عنده سوى النفخ في وجهي وتلميعي. عند خلاصي من سجن المحل ذي الخانات الزجاجية، سيرتديني أحدهم وأكون حراً لأتذوق لمرة واحدة تراب الطرقات أو مياهها وأزبالها ووساختها حتى. أتذكر كيف طالعني الطفل من وراء الزجاج، كان وجهه يشبه وجهي، حزين أيضاً، وكانت أمه واقفة بقربه ممسكة بيده.
« إنه حذاء فاخر» قال الطفل -صاحبي الذي اشتراني -لزملائه في المدرسة، وظل يشرح لهم أيضاً بطولات أمه في عملية دفع قيمتي، والمغامرة الطويلة في طول التعامل على تخفيضها مع صاحب المحل. ولا أخفي، فهذه القيمة المرتفعة قد كبلتني بعض الشيء. بل في جميع الأحيان أنا مكبل بقوانين المشي على الطُرق، ووضعيات يلتزم بها الطفل بتوصيات والدته المتزمتة. كم أشتهي السير حين تملأ مياه الأمطار الشارع. أسمع وأطالع باقي الأحذية الرخيصة المصنوعة من النايلون كيف تبتهج بموسم المطر والمياه السائحة. في إحدى المرات جرى حديثٌ بيني وبين حذاء مجاور لي، كان لابسه ولابسي جالسيْن على رحلة واحدة متجاوريْن، فاستثمرنا وقت الدرس بالحديث حيث قلت له (أنا حذاء مصنوع من الجلد الفاخر)، فرد عليّ (وأنا مصنوع من البلاستيك، هل سينزل صاحبك إلى الماء كما يفعل مالكونا؟). فتمتمت بكلمات خجولات (لا أدري. إنه ملتزم بعض الشيء بتوصيات والدته، هي توصيه كل مرة حين يخرج إلى المدرسة ألا يوسخني، فهي تجتهد في صبغي وتنظيفي وتلميعي). ضحك الحذاء البلاستيكي وقال (ولكننا لا نحتاج إلى تلميع. أنا على سبيل المثال أكتفي بمسحة بسيطة من فوطة قذرة موضوعة عند مخلع الأحذية). تنهدت ولم أشأ البوح بالحسرة في صدري، ولكنني رحت أقاوم قائلاً ( نعم.. نعم.. أنت لا تحتاج إلى ذاك التلميع، فأنت من البلاستيك). لكنه رد عليّ بثقة وصلافة (وأنت مصنوع من الجلد الفاخر، ولكنك لا تستطيع النزول معنا في برك الأمطار.. يا لها من متعة ..! خاطري مكسور على حالك فأنت مرتهن بقدم صاحبك الطفل الثري). وما إن أنتهى الحذاء الطويل البلاستيكي من كلامه، وإذا بالكآبة تسللت إلى جلدي. كيف أقنع الطفل الذي يرتديني أن يخالف كلام أمه المتزمتة وينزل لو مرة، مرة واحدة إلى بركة طينٍ صنعها المطر؟!. ها أنا ذا أنظر إلى الأحذية الباقية كيف تلهو في المياه السائحة على صدر الشارع، لست وحدي من يطالع، بل صاحبي أيضاً كان يطالع الصبيان الذين كانوا يرتدون الأحذية البلاستيكية، ومستغرب هو بلا شك من عدم اكتراثهم للطين والبلل. نقطت على رأسي قطرات، توقعت أنها بعض رذاذ المياه الموحلة، وحين تسربت في جلدي وجدت أنها دافئة ومالحة، بالضبط هي ذات القطرات التي تنزل من عينيه حين يخفي وجهه بين ذراعيه على رحلة الصف، وينزلن من عينيه على رأسي مباشرة.. أوووه كم تذوقت طعم هذه القطرات حتى حفظتها. وها هي تنزل مرة أخرى حين سمع أصدقاءه ينادون باسمه، ويضحكون من شدة قلقه من القفز في الماء.. وفي تلك اللحظة.. تحركت أصابع قدمه ودغدغتني بقوة، نعم نعم إنها لحظة رائعة، راوح مالكي في مكانه وظل يقفز ويقفز ويضحك ويهتف بأسماء أصحابه، ثم أشاروا له بالنزول عن الرصيف لمياه المطر معهم. عندها قرر صاحبي النزول في بركة المياه الطينية تلك، ثم عاد للوراء عدة خطوات، وهرول صوب الماء بقفزة عريضة مع صيحات عالية من أصدقائه، وتناثرت قطرات الماء على وجوههم مع ضحكات صاخبة متفرقة منهم ومن المارة الذين كانوا يتحاشون البلل. راح يغطس بي ويخرجني من الماء، والأولاد كادت قلوبهم تطير من الضحك، متناسين لعنات الأمهات او توبيخهن، وأنا أيضاً تناسيت ثمني وقيمة جلدي الغالي، ورحت أشرب الماء الطيني وأغسل وجهي به بلا اكتراث، وفتحت قيطاني بعد أن انفكت عقدته الوثيقة، تلك العقدة التي توثق الأمُ ربطها بإحكام كل صباح، ورحت أضحك بجنون مع الأحذية البلاستيكية.