يوسف الشريف
يؤشّر الحراك المتجدد للاتحاد العام التونسي للشغل إلى تركيز متزايد في السياسة التونسية على الأولويات الاقتصادية.
بعد أشهر من التوعد، نظّم الاتحاد العام التونسي للشغل إضراباً على مستوى البلاد في 17 كانون الثاني/يناير تسبّبَ بشل الاقتصاد، وحتى إغلاق المجال الجوي، وهو ثاني إضراب من نوعه منذ 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
والمسألة الخلافية الأساسية التي انطلقت منها الاحتجاجات، القرار الذي اتخذته الحكومة بتطبيق حزمة الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي، والتي من شأنها تقليص التأثير الذي يمارسه الاتحاد وتعريض مصالح أعضائه للخطر.
هدّدت قيادة الاتحاد بتنظيم إضراب عام ثانٍ وأوسع نطاقاً في 20-21 شباط/فبراير الجاري، إلا أنهم توصلوا إلى تسوية مع الحكومة في السابع من شباط/فبراير بزيادة الرواتب.
على ضوء الصعود المتجدد للاتحاد، بما في ذلك الشائعات عن إمكانية انخراطه في السياسة النظامية، قد يؤشّر هذا الحراك. لكن حركية الإتحاد هذه ربما تؤشّر إلى تحوّل في السياسة التونسية. فغالباً ما يختصر المراقبون الوضع في تونس – وفي العالم العربي عموماً – بأنه نزاعٌ بين الإسلاميين والعلمانيين. في حين أن إطار الانقسام الإسلامي-العلماني ينطوي على شيء من الدقّة، إلا أنه يتجاهل في الأغلب التحليل الأكثر غوصاً في التفاصيل، ويُبقي على الفرضية الاستشراقية التي تعد أنه يمكن تفسير السياسة الشرق أوسطية انطلاقاً من الضوابط الدينية التاريخية. في تونس، كان الإسلام السياسي هامشياً حتى سقوط الحكم الديكتاتوري في كانون الثاني/يناير 2011. وعلى النقيض من مصر، حيث تمكّن الإخوان المسلمون من تقديم مرشحين مستقلين واستخدموا عملهم على تأمين الخدمات الاجتماعية لبناء قاعدة شعبية قوية، تعرّضت حركة النهضة للحظر والقمع الممنهج في عهد الرئيس زين العابدين بن علي. لذلك فلم تكن المطالب الأساسية التي رفعتها التحركات الاحتجاجية المتفرّقة التي اندلعت قبل العام 2011، أيديولوجية، بل داعيةً لمزيد من الحريات السياسية أو بتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي – كما في انتفاضة قفصة عام 2008.
كما كانت إحدى المظالم الأساسية في عهد بن علي، إلى جانب الفساد والسلطوية، تخلّي الدولة عن دورها الأبوي والتنظيمي، مع إصرارها في الوقت نفسه على الإبقاء على احتكارها للمبادرات الاقتصادية. نتيجةً لذلك، طالب التونسيون الغاضبون بإستمرار الدولة بتأمين الوظائف وبناء المستشفيات وغيرها من المطالب الاقتصادية والاجتماعية. بيد أن الصعود السريع لحركة النهضة الإسلامية كحزبٍ سياسي ونجاحاتها الانتخابية في العام 2011 دفعت بخصومها إلى تطوير سردية «علمانية» مضادّة، حجبت النقاش العام فيما يخص الشؤون الاقتصادية، التي كانت على الأرجح القوّة المحرِّكة للربيع العربي. وقد تسببت السردية الأيديولوجية، المنفصلة عن المظالم الاقتصادية، بتدعيم انطباعٍ متنامٍ لدى الناخبين المستائين، سيما الشباب منهم، بأن مستوياتهم المعيشية لن تتحسّن بغض النظر عن الحزب الذي يُصوّتون له.بحلول العام 2015، عندما قرّر حزب النهضة «الإسلامي» وحزب نداء تونس «العلماني» تشكيل حكومة وحدة وطنية، اعتمد كلاهما رؤية اقتصادية نيوليبرالية – غير أن النهضة أبدت، على النقيض من نداء تونس، تفضيلها للحد من تدخّل الدولة ولتقليص البيروقراطية. وعلى الرغم من أن حكومة الوحدة انهارت في العام 2018، إلا أن الائتلاف الراهن – الذي يضم النهضة، وحزب تحيا تونس بزعامة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وحزب مشروع تونس، وحزب المبادرة – أبقى على هذه المقاربة الاقتصادية. فالنهضة بوصفها حزباً سياسياً منظَّماً ذا تمثيل واسع في مجلس النواب إنما تأثير ضئيل داخل مؤسسات الدولة، تسعى على وجه الخصوص إلى تغيير الوضع القائم. فجمهورها في الداخل التونسي ونخبته لا تزال مقصيّة إلى حد كبير عن الدوائر الاقتصادية التقليدية.
وجدت النهضة في الشاهد حليفاً ناجعاً يتشارك معها بعضاً من آرائها الاقتصادية. ويحتاج الشاهد بدوره إلى النهضة لدعمه ضد الفصائل المعارِضة له فيما يعمل على توسيع حزب تحيا تونس الذي أسّسه في 27 كانون الثاني/يناير بغية الإستيلاء على مكان نداء تونس. ويسعى الفريقان على السواء إلى الحصول على الدعم السياسي من صندوق النقد الدولي وبلدان مجموعة الدول الصناعية السبع التي تطالب تونس بالتعجيل في تطبيق الإصلاحات الاقتصادية البنيوية. غير أن هذه الإجراءات ليست شعبية على الإطلاق، فقد أوقظت من جديد مظالم قديمة وتسببت خصوصاً باندلاع احتجاجات واسعة مناهضة للتقشف في كانون الثاني/يناير 2018. ولذلك أبقى الشاهد والنهضة على الالتباس في تصريحاتهما ولم يعبّرا بوضوح عن رؤيتهما الاقتصادية، مع العلم بأنهما مضيا قدماً في تطبيق السياسات الحائزة على موافقة صندوق النقد الدولي، مثل زيادة أسعار المحروقات وتجميد رواتب القطاع العام في 2019.
والإضراب العام الذي أعلن عنه الاتحاد العام التونسي للشغل في 17 كانون الثاني/يناير جاء احتجاجاً على هذا المعسكر، فالاتحاد يدافع، بوصفه نقابة عمّالية، عن نحو 500000 إلى 750000 موظف في القطاع العام يُعتبرون تلقائياً أعضاء في الاتحاد. والرغبة التي تُبديها حكومة الشاهد في خفض أعداد الموظفين في القطاع العام وتجميد الرواتب تُهدّد الاتحاد في بقائه، لأنه من شأن هذه التغييرات أن تُقلِّل من قدرته على التعبئة وتقتطع مصدراً أساسياً من إيراداته، والاتحاد العام التونسي للشغل معارض أيضاً للنهضة التي لديها وجودٌ محدود في أوساط موظّفي القطاع العام (وبالتالي في صفوف الإتحاد).
يَلقى خطاب قادة الاتحاد – الذي يدعو إلى تأميم القطاعات الأساسية، ويتضمن كلاماً عروبياً ومشاعر قومية مناهضة للإمبريالية – استحساناً في أوساط السكان المستائين من فشل الأحزاب الرئيسية في تحسين أوضاعهم الاقتصادية.
كما وجدَ الاتحاد شركاء طبيعيين في الجبهة الشعبية، وهي عبارة عن ائتلاف سياسي من اليساريين والعروبيين، وكذلك في فلول النظام القديم الذي تشتمل أيديولوجيته الهجينة على الوطنية والاشتراكية والقومية العربية.
لقد أبدى الاتحاد العام التونسي للشغل، حتى الآونة الأخيرة، تفضيله للانخراط في السياسة خلف الكواليس. لكن خلال التحضير لإضرابات كانون الثاني/يناير، صرّح أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي، في 29 كانون الأول/ديسمبر 2018، أن منظمته «مهتمّة» بالانتخابات المزمع إجراؤها في خريف 2019، في تلميحٍ بأن الاتحاد سيخوض رسمياً غمار السياسة وسيقدّم مرشحين للانتخابات. لا يستبعد أن يسعى الاتحاد إلى البناء على شعبيته الراهنة لتثبيت نفسه كرأس حربة اليسار في البلاد، أو على الأقل كصانِع للائتلافات الحكومية.
سواءً ترشّح الاتحاد في الانتخابات أم لم يفعل، فإن خطابه الأخير يُنذر بموسم انتخابي محموم تُطلَق فيه مزيد من الوعود الاقتصادية والشعارات الوطنية. في غضون ذلك، فيما يتّهم قادة الاتحاد الشاهد والنهضة بالخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي والبلدان الخارجية، يعتمد المعسكر الممسِك بزمام السلطة موقفاً دفاعياً، فيُطلق تارةً دعوات للتفاوض، ويدعو طوراً إلى التوصل إلى تسوية مع الاتحاد العام التونسي للشغل، كما حدث مؤخراً لما رضخت الحكومة لمطالب الإتحاد بالزيادة في رواتب الموظفين العموميين تجنباً للإضراب العام. فقد جدّد زعيم النهضة راشد الغنوشي التأكيد، في الثاني من كانون الثاني/يناير، على أن الحزب عازمٌ على التمسّك باستراتيجيته الاقتصادية القائمة على خفض الإنفاق الحكومي مع تنبيه صندوق النقد الدولي من مغبة «ممارسة ضغوط إلى درجة الانفجار»، في مسائل حسّاسة مثل خفض الدعم الحكومي.كلما طالب شركاء تونس الخارجيون بإصلاحات بنيوية جوهرية، كلما واجه الائتلاف الراهن مزيداً من الاستياء الشعبي، ما يعني المخاطرة بتأجيج الأمور إلى حد إسقاط الحكومة وربما حتى تعطيل مسيرة الإصلاح.
من شأن هذا الأمر أن يجعل الحكومة تجد صعوبة أكبر في احترام التزاماتها تجاه المانحين الدوليين، في وقتٍ تحتاج فيه إلى دعمهم للاحتفاظ بقبضتها على السلطة.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنجليزية.
يوسف الشريف محلل سياسي، عضو في شبكة كارنيغي للأبحاث المدنية، ومشرف على مركز كولومبيا العالمي في تونس
صدى