تداعيات الذاكرة وتأثيث النص في (وجوه ملونة)

علوان السلمان

لجبرا ابراهيم جبرا (انت مطالب بالتمرد..وان يكون تمردك ما يستعيد بعض حيويته من جذورك..وتضيف اليه من اصالتك..فتصبح جزءا فاعلا من عصرك وغير منقطع عن ماضيك..)
والقصة القصيرة جدا (اللحظة غير القابلة للتأجيل) او (اللحظة التعبيرية الخاطفة) الكاشفة عن روح العصر الذي وسم بعصر السرعة بفعل التطورات التقنية والرقمية، فن الاتصال الموجز عبر فضاء حكائي مقنن بنائيا وجماليا، معبرا عن واقع حلمي محتمل الوجود عبر منظومة لغوية لها خصوصية السرد والوصف المقتضب، فالابداع(دخول في المجهول) على حد تعبير ادونيس..باعتماد الايجاز والتركيز والاختزال الجملي والمعالجة المركزة للحظة بقدرة واحدة لواقعها مع احتفاء باليومي والانفتاح على الرؤيا واللحظة المكثفة ذات الابعاد الجمالية المقتربة من الحلمية..بتوظيف لغة مجازية تتكيء على الصورة الفنية والرمز الدال..كونها تحمل قلقا مجتمعيا متحولا باستمرار باحثا عن حريته التي هي(وعي الضرورة)..
وباستقراء المجموعة القصصية (وجوه ملونة) التي نسجت عوالمها الحالمة انامل القاصة رجاء الربيعي واسهمت دار ميزوبوتاميا في نشرها وانتشارها/2018، لأنها تعتمد السياق الكمي الكاشف عن التجريب كحالة ذهنية فاعلة ومتفاعلة وواقعها بطرحها للأسئلة واكتظاظها بإشكاليات الواقع الذي جعل من الانسان كائنا تراجيديا مغتربا ابتداء من العنوان النص الموازي والايقونة المكثفة المعنى، المكتنزة بوظائفها الدينامية الدالة على البنية التعبيرية لفعل السرد…
(قرع جرس المسافات فحملتها الايام لمكان آخر، وبقيت تبحث بين طياتها عن تلك الصور القديمة التي فقدتها او مزقتها امه حين عادت لوحدها بدونه، كل ذلك صار في لجة النسيان والحضور الكثيف لألم الذاكرة وانينها المدوي حين جيء به محمولا داخل تلك الخشبة، الخشبة الباردة التي لا تعرف ثقل العاطفة والانين المر لما تحمله من روح مهمومة وغائبة، ما يزال عبق الاوراق الملونة الجميلة يضوع برومانسية شفيفة بكلماته الطافحة بالحب، تلك الجارة الحبيبة التي امضت جل وقتها في انتظار اوبته ليتهامسا بنظراتهما عند ذاك الحائط المتهالك..
مرت اللحظات بطيئة فيما انتفضت بطريقة عجيبة وهياج كأنه البحر، فرحها الممزق واحلامها التي تبعثرت وتلاشت، مزق اوراقه الملونة، ولهها الذي أمسي فجأة لوعة مرتدة الى عمق روحها واضطراب ذاكرتها.
الى متى سأبقى هكذا احمل هموم الناس الى الابد وما من احد يحمل همي، انا الجثة الخشبة الموبوءة بالسواد تتكرر مساءاتي التي تشتعل عنوة دونما لمعان ولا بريق، وبانتظار غائب يتكرر هو الآخر في خشبة باردة، يحضر كل مساء دون ان يجيء…؟ ص11 ـ ص12
فالنص يهتم بالجهد التكثيفي والاختزال الجملي بالفاظ ايحائية مكتنزة الدلالات…فضلا عن انفتاحه على الاجناس الادبية وعنصر المفاجأة الاسلوبية الادهاشية داخل البناء الحكائي من اجل استحضار الجمالي الذاتي المستفز لذاكرة المستهلك الذات الجمعي الآخر، باعتماد اللقطة المشهدية السيمية والصورة التشكيلية والتوتر الدرامي بلغة موحية متشظية ومتكئة على الابهار الجمالي لتحقيق صورها الانزياحية.
(داهمها شوق لحظة انزياح عجيبة، تمنت ان تكون ضمن جزئياته المبحرة في المدى الواسع، اتصلت به، كانت تواقة الى ان تذوب في فمه مثل قطعة سكر يتلذذ بأجزائها ويتذوق طعم حلاوتها، أجابها الرد الآتي، نعم ستكون أوراق الاجتماع جاهزة بعد يومين.) ص93.
فالنص يركز على صورة الفضاء باعتباره صورة محورية وبؤرية داخل عوالم السرد كونه الحاضن للأحداث والشخوص زمكانيا، فيركز على خلق صورة سينارستية قائمة على الانفعال الوجداني واستنطاق الذات بتحويل المشاهد السردية الى صور حركية، بصرية من خلال تتابع الافعال بدينامية متفاعلة باعتماد الجملة الفعلية الدالة على الحركة والتي تسهم في تسريع السرد مع ابتعاد عن الوصفية الاستطرادية وتوظيف بعض التقانات الفنية والاسلوبية كالتنقيط (النص الصامت) الذي يستدعي المستهلك لملىء سواداته، مع حوارية ذاتية تكشف عما تضمر الشخصية..
وبذلك قدمت القاصة نصوصا سردية تحمل خصوصيتها الابداعية ورؤيتها البنائية والتعبيرية الفنية والتقنية وعنصر المفاجأة والاقتضاب الوصفي وهي تسبح في بنيتين اساسيتين: اولهما البنية اللغوية، وثانيهما البنية المعرفية، اضافة الى اعتمادها تقنية السرد الموحى لبناء نص مؤثث بالتداعيات التي تفرزها الذاكرة المنتجة..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة