كائنات العُلا في قذائف ورقية لمنى السبع

اسماعيل ابراهيم عبد

بحنان أُم وفرحة طفلة وأنوثة شعر تتجول الشاعرة بموجوداتها بين السماء والأحياء، تلبس قفازاً يغطي ألوان أنويتها، لكنما (القطة / المرأة) بما لها من خطم وحاسة شم تلوّح لها الأماكن من قارات بعيدة تعيد للأرض حيوانها المفتقد، الحيوان الكائن الذي يحتار في خياراته بين تقديس الحياة وتقديس الفراديس في العُلا!
قد نبدد حيرة الشاعرة منى السبع بقولنا:
(انها تعشق كائناً هابطاً من السماء يتشمم بهاء الأرض وينث بالمطر على الأعشاب فيقيم له مملكة بين زرقتي الأرض والسماء، اي زرقة الشعر كحياة وزرقة الخلود كأبد سماوي للأرواح الطاهرة الحية كلها!
لنتابع مشور الأوراق المقذوفة نحو اللا شيء للشاعرة منى السبع عبر قصيدتين منتقيتين كإجراء تطبيقي لا تفضيل فني:
أولاً: خلق الكائنات بلغة المواء
[قطة الزقاق المدللة انا
على رصيف…
اتشمس
الصبايا والعجائز الانيقات
يتوقفن عندي
يداعبن خطمي الوردي الصغير
يمسدن رأسي] (1)
في العادة ان الشعر الحديث يهتم بالأنسنة للموجودات غير العاقلة بتغيير وظيفتها من السلوك البيئي الى السلوك المعقلن شبيه السلوك البشري، وبذلك يحصل على سعادة خلق الكائنات المستحيلة، وسعادة التحرر من التزامات البشر الاجتماعية، لكن الشاعرة تعيد الازاحة الشعرية معكوسة، إذ كائن القصيدة يؤكد على:
1 ـ ان القطة هي المرأة المرجوة، اللطيفة الأنيقة الدافئة الحنونة المطيعة.
2 ـ القطة كناية عالمية عن الأنثى المانحة للأشياء توقها الشعري.
3 ـ تغيير وظيفة البشر الى سلوك حيواني داجن هو طرافة شعرية تشي بخرق دلالي , إذ الأنسنة من هذا النوع كانت محصورة بوظائف اشتغال السرد في (النثر) , عدا محاولات قليلة محدودة الجودة، لعل الشاعرة منى السبع ستحقق نجاحها الخاص بهذا الاتجاه فتتفرد به دون غيرها من الشعراء والشاعرات.
4 ـ عدم الافتعال والاختزال الشديد في مساحة التراكم الجملي يوحي بالبوح المبرمج حد التوحد بين الفردانية الهامسة لذاتها، والذات المُظْهِرَة للتعاطف البيئي الشامل. 5 ـ التركيب الجملي الهامس الحواري، يتبارى مع ما تموء به انثى القطط، وما تناغي به الامهات والجدات للأولاد والبنات الصغار.
6 ـ ينمو الحوار الشعري بين ذاتين جائعتين لـ:
ـ قطة موازية للجمال البيئي الشامل.
ـ قطة تمثل للحنان الامومي الدافق.
وكلاهما جائع لفرح طفولة متصاعد لأجل انجاز فعل (ثنائية الحاجة للدلال، والرغبة في منح المتعة) .. نفذ هذا كله كوظيفة للـ (الحيوان / الانسان) الداجنين بالسلوك المتحضر. ثانياً: قيمة المواء والزقاق
تشق القطة طريقها بين العائدين من سوق السمك، وكافتريا السيدة … مزهوة بلونها الأبنوسي وخطمها الوردي الصغير والجرس الصغير حول رقبتها، وهي تحظى بزقاق يدللها حتى لكأنها عصفورة تزقزق بدلال وتمهل وسعادة لا حدود لها، لكنها لا تأكل من اي مكان عدا كافتريا السيدة قدريه، لأنها طفلة حقيقية تأكل أكلاً آدمياً، لكنها تلبست دور قطة لتتحرر من محددات البشر .. تريد ان تصير زقزقة للزقاق لا قطة مواء، ولا أنثى شوارع، ولا متعة لاهين، فهي تجيد كل ألعاب البشر، ولها قدرة ان تتحداهم وتتفوق عليهم:
[قطة الزقاق، الابنوسية، المدللة،
أنـــــــــا
حول رقبتي جرسٌ صغير
إرمِ لي لي بكرةِ مطاطٍ
وانظر كيف ألهو بها؟
على نحو يقطع الانفاس
محظوظــــةٌ
وحظوظــةٌ، وسعيــدةٌ
أنـــــــــــا
قطـــــةُ الزقاقِ] (2)
في المقاطع اعلاه تأكيد لظاهرة (السرد) الشائعة المهيمنة على قصيدة النثر الحديثة، فضلا عن أنها تحوز على أربعة شروط للقصيدة الشعرية العامة التي لا تتقيد بتصنيف ما، انها (الإزاحة والغنائية والقصدية والبهجة)، فضلاً عن (القصر والكثافة والأنسنة المعكوسة) وبهذا تنتج القصيدة شاعريتها الخاصة، دون ان تبالغ بمؤثرات الخارج من الثقافة (كثقافة الرحلات).
الملاحظة الأخيرة عن القصيدة انها لم تعد بحاجة الى تأويل بعيد كونه لا يتلائم مع الظرف النفسي الذي تقصدت الشاعرة بخلقه،أي جو السعادة والتحرر والمرح.
ثالثاً: فاوست جديد
وفي قصيدة فاوست، تحكم ربوبي بالمخلوق فاوست ـ على الرغم من جبروته ـ فهو يصير حالة من الرفض الروحي، يبعثها الرب، عبر لسان الناس، فيصير فاوست اضحوكة، وما يهمنا من هذا ان الكائن فاوست أزله الرب ليصير نبياً، والقطة ازلَّ الرب بها امرأة، فصارا كائنين وسطين مهجنين يسكنان بين الأشياء الأرضية الناعمة والأشياء السماوية الهشة الندية، لننظر:
[وانت ……
تلهث تلهث
تلهث
والرب يضحك .. يضحك .. يضحك] (3)
رابعاً: الجو الشعري
ان الجو الشعري للقصيدتين يشحن الوجدان الشعري بقيم فنية أربع:
ـ التعمق بلغة الدأب والحنان الانثوي للناضجات والامهات والجدات.
ـ التعمد في نشر البساطة والفرح والدفق الفطري لجمال الألوان عبر المظهر الخارجي للكائن المؤنسن.
ـ اللجوء الى محفزات القراءة الفاعلة عبر توزيع القول الشعري على العفوية والفطرة والبهجة الطفولية المنبثة عبر جمل الشعر السردي شبه الحكائي.
ـ التقصد بخلق التنغيم الممسك بالتوافق الجملي والاسلوبي , إذ القصيدة شدّت عناصر نصها بظرف وجداني جغرافي , نفسي يوحي بالكثير مما لايمكن البوح به على لسان البشر.

(1) منى السبع، قذائف ورقية،اتحاد الادباء، بغداد، 2018 ص17 ص18
(2) منى السبع، قذائف ورقية، اتحاد الادباء، بغداد،2018 ص18 ص19
(3) منى السبع، قذائف ورقية، اتحاد الادباء، بغداد ،2018 ص44

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة