رجاء الربيعي
لم يخطر في بالها يوما ان تكون ضمن مدارات الملائكة وممن تراقب من قبلهم، تارة تضحك وتارة تصمت، وتارة تسمع صراخ اطفال وربما نساء ورجال، اهو العذاب، اهو تقاذف الذنوب، هل هي في دوامة الناس التي لا تنتهي، هل هي في جهنم ام في الجنة؟ البياض ساطع يذهل النظر ويجعل العين تدمع، اتبكي من شدة الفزع، الموت، الصوت الاكبر والاعلى، قالوا انها ستراهما واقفان امامها وقيل لها ستخافين منهما، لكن الانتظار يقلقها، وقف امامها مثل جبل ثلجي ناصع البياض، ملتحٍ وجبينه عال وشعره اسود ويرتدي سترة بيضاء له عينان واسعتان ربما لا تضاهيان بوسعهما الحياة بطولها وعرضها. له ابتسامة عريضة، تلك الاصوات اللعينة تخترق الاذن وتسعفها اخرى بأعلى من الاولى ربما عذاب وربما ضحك ولكنه صوت عال ياربي ما الذي انا فيه الان من هؤلاء ومن هو ما الذي جاء بي الى هنا وكيف اكون هنا ما الذي انا فيه وما هذه الاسئلة التي لا مجيب لها، هذه الاصوات سمعتها ايام الانفجارات التي نسيتها وانا في وطني، هل نسيت تلك الطائرات التي كانت تبث سمومها على غيومنا التي بكت ماء اسودا مثل كحل العين، كم من عذابات انتهت وانا قابعة هنا في هذه الغرفة المضيئة .قيل من في جسده خال سيكون لاحقا مصباح يضيء له ظلام ليله.
رقودي طال وما زلت اتنفس بقوة واخاف التوقف، وأخشى الظلمة ولكنه يضيئ لي ذلك المصباح الوحيد في اصبعي، عفو الخال الوحيد في جسدي، ربما لم اكن منتبه له ولأهميته، الاصوات تتعالي واخرى تهبط واخرى لها وقع الخوف في قلبي، الاضاءة تخفت وتقوى، دخولي لهذا المكان لا فائدة منه هل انا المقصودة بهذا المكان، سأفتح عيناي وارى ما يدور حولي، هو ما يزال واقفا قربي، اغمضها لربما يأتي غيره اهو يعرفني وهل سال غيري بنفس الاسئلة، هو باسم الوجه ام عابس، له لحية سوداء ووجه بشوش يا الهي من هو؟ … اغمضها مرة اخرى عله يتغير لحظة تخيلت اني في مصنع للصراخ لصيق بالذاكرة التي لم تنسى يوما تلك اللحظات الحرجة يوم كان الصراخ المتنفس الوحيد لها تخرج من مجلس عزاء الى اخر، ماهذه الذكريات الموجعة ولماذا تتذكرها ومن اتى بها الى هنا، وما هذه البقعة التي زرعت انا فيها، نعم انا اتيت بقدمي نعم، ابتسم بوجهي مناديا على زميله ارفعها من الارض سقطت سهوا من سريرها، الذي تحرك بفعل الأنفجارات القوية التي هزت بيتنا الكبير، استرجعت ذاكرتها اثر الانفجار كان مؤلما وكل اعضائها تنهش في بعضها من الالم، صحت من غيبوبتها الاجبارية، نعم كل جسدها يتألم من اجل قلبها وعقلها الحياة اجهضت كل احلامها، ولكن الاضاءة قوية في هذه الغرفة الصغيرة اهي قبرها؟ هي بلا ذنوب وخالية من السواد في وجهها لها عطر واضح يملأ المكان، بدأت تشم وبدا انفها يتجرع العطر كما الجائع او العطشان كيف يشرب بقوة حتى انه يريد ان يشرب كل شيء. هي تحاول ان تسحب كل الهواء في هذه الزاوية. تلك الليلة باتت ذاكرتها المعطوبة مصدر ازعاجها، الجامعة الاعدادية المتوسطة الابتدائية بدأت الذكريات تلقي بنفسها امامها وهي وسط الضجيج والاصوات تتذكر وقفة يوم الخميس ورفعة العلم والسيدة التي تمسك السلاح بقوة بخلافها التي تضم راسها ما بين صديقاتها. الاصوات ذاتها تسمعها الان، الجامعة وذلك الشاب ببيته المحاذي لبيت جدها، المغازل على طول اللحظة، تلك الفتاة الثرية ومعاناتها مع الفقر الانساني الذي تعانيه، ما الذي ذكرها بأشيائها، اهي الذنوب الكثيرة؟ اهو المنكر والنكير، هنا واحد لم يتزحزح وهو قرب الغرفة البيضاء هو يبتسم، هل محى الله لي الذنوب وهل سأسير على السراط المستقيم الذي تذكره امي في صلاتها مذ وعيت عليها كذلك، ان سألته يجيبني، ومن انا ليجيبني انا هنا في هذه الغرفة المليئة بالضوء الذي يملأ الكون جمال، انا هنا لوحدي اتجرع الخوف لوحدي وهذه الاصوات الخائفة والتنهدات انا هنا لوحدي لا يسمعني الا الواقف امامي ولا يهمه صراخي، ارجوك مد لي يد العون، يا الهي كن قربي انتهت ذنوب العالمين لتبدأ معي.
ما هذه الالفة العجيبة مع المكان رغم ضيقه انه بارد كأني وسط قطعة ثلج تذوب شيئا فشيئا والماء ينزل على وجهي، هل ما تزال ملابسي لم تتغير من شدة المكان وضيقه، هل … وما هذه الاسئلة، هي دموعي لا أستطيع مد ذراعي للأعلى او امسح القطرات التي وقعت على وجهي، من صاحب الصدرية البيضاء.
توقفت الضوضاء، وهدأت العاصفة الكونية هل انا في حلم، بل أكثر. نعم انا في الواقع، ما هذه الخزعبلات التي تدور في مخيلتي انا مثل العجائز سكت الصوت الزاحف نحو أذنيّ، كيف اقاتل الخوف الان ما الذي انتهى الحرب ام العذاب ومن كان يصرخ، اهي انا، توقف نهائيا فتح الباب وبدأت اشعر ان شيئا يسحبني الى الارض، لا أستطيع المقاومة ارفس بقدمي وانا اقاتل عليّ ان لا اذهب الى الارض الى العذاب هل كانت هذه عذابات الممات؟ مد لي يدك ارجوك! بدا صراخها يعلو في المكان ويتعالى اللهاث في صدرها، فما كان منه الا أن سحبها وطمأنتها قائلا لا عليك المهم ان تكوني بخير. هدأت الأصوات، هل ذهبوا جميعا للجحيم وانا بقيت لوحدي هل انتهى عذابهم؟ تتطلع الى ما حولها وهي تحاول ان تستعيد ذاكرتها المعطوبة، ضحكت كثيرا لما رأته من احلام وكوابيس واصوات تتعالى كل لحظة، غادرت الجهاز وهي تضحك فيما تضع يدها على كتف الطبيب المشرف على جهاز الطبق المحوري الخاص بأمراض المفاصل.