«سليم البصري» آخر اعماله
سمير خليل
هناك، في بلجيكا وسط برودة الطبيعة وقسوة الغربة وحلاوة الذكريات، يعكف فناننا العراقي المبدع فاضل مسير في مشغله ليجسد خلاصة مشاعره وتعلقه بالوطن واهله عن طريق منحوتاته التي تتنوع بالشكل وتتوحد بالمضمون.
لفاضل مسير علاقة خاصة مع الطين، يستنطقه، يغازله، يراوغه ليشكل منه عناوين لأحداث واساطير وشخوص مختارة من عبق العراق وطيبته.
منحوتات مسير تحمل هوية خاصة، حروفها تتوهج القا، شخوصا وتشكيلات تسر العين ببساطتها ومعانيها، تسكن الذائقة وترفض مغادرتها لتظل انيسة الذاكرة وضيفتها الاثيرة.
فاضل مسير يفتح قلبه لـ (الصباح الجديد) ليروي لنا قصة عشقه وتعلقه بفن النحت، ويتحدث اولا عن علاقته بالطين واللغة بينهما: الطين هذه المادة المرنة التي تنساب بين الاصابع بسلاسة تساعدني على قول ما اريد قوله من خلالها من دون الكلام.
ويضيف: مع الطين وجدت ذلك الانسجام الذي فيه شيء من الحب والغزل، ودائما أجد نفسي بين حنايا الطين تلك، يطاوعني كثيرا لأصل من خلاله الى الفكرة والمضمون بسهولة، لأُحققَ به تلك الغايات والصور الجمالية الرائعة.
وكيف تتعامل مع البورتريت؟
-البورتريت من أقرب الاعمال الى نفسي، وأجد متعة كبيرة بتنفيذه، وهو أحد أهم أركان فن النحت. الفنان يجب ان يمتلك حسابات هندسية دقيقة للموديل حتى يتمكن من تحقيق حالة الشبه أولا، وينقل روح العمل والمفردات الحسية له ثانيا. في البورتريت هناك خطوط هندسية ومنحنيات ونسب رياضية مهمة، لابد للنحات دراستها بنحو كامل، ويستغرق ذلك مني عمقاً في التفاصيل، ولكن يبقى أجمل ما فيه، التنافس مع الذات للوصول الى حالة الابداع.
اين يقف النحت العراقي اليوم؟ هل هو بخير؟
-الاعمال النحتية مقلة بالتأكيد واغلبها تنتمي الى مدرسة فنية واحدة، التجريد والحداثة، وفي غياب المؤسسات الفنية ودور وزارة الثقافة المغيب عن بعض هذه الاعمال الفنية التي يتم تنفيذها في بغداد والمحافظات، والتي تكون غير لائقة لبلد ذd حضارة عريقة تمتد جذوره لآلاف السنين، نعم هناك مجموعة من النحاتين يتنافسون ويقدمون اعمالا نحتية كبيرة، ولكن، قيد الانتظار، ومتوقفة، ولم تدخل حيز التنفيذ، ويعود ذلك ربما الى النهج الحكومي عندما يتعلق الموضوع بفن النحت، وطبعا هذه من العلامات السلبية لواقع النحت في العراق.
هل يمكن ان نشاهد نصبا كنصب الحرية؟
-يعد نصب الحرية للراحل جواد سليم من الاعمال الرائدة والمهمة، ومعلم من المعالم التي انطبعت في اذهان الجميع كهوية عراقية، والذي ارتكز إضافة الى جوانبه الفنية الرائعة، الى الدعم المؤسساتي للفن العراقي آنذاك. اليوم من الصعب القول اننا قادرون على موازاة هذا العمل بأعمال جديدة، ليس لخلو البلد من القدرات الابداعية في مجال النحت، بل العكس، العراق يمتلك الكثير من المواهب والامكانيات الفنية في هذا المجال، ولكن بسبب غياب الدعم الحكومي وتلاشي دور وزارة الثقافة في التواصل مع الفنانين، وتفعيل الاجراءات التي تخص عمليات فرز واختيار الاعمال النحتية للشروع بتنفيذها. ومتى ما تنتهي هذه العقبات ستشهد بغداد وغيرها من المحافظات اعمالا توازي بثقلها الفني والجمالي نصب الحرية.
اين يقف فاضل مسير من سفر النحت العراقي والعربي والعالمي؟
-برغم قناعتي بأن الخطاب الجمالي يمكن ان يأتي بأي عمل فني مميز، ولكن في اغلب اعمالي اميل الى المدرسة الواقعية في النحت، وهي من اهم المدارس الفنية، وارى ان المتلقي العراقي والعربي ما يزال يميل الى اعمال هذه المدرسة بشغف، ومازال غير مكتف منها، والدليل، قلة وربما خلو بعض البلدان العربية من هذه الاعمال، على عكس دول العالم المتقدمة.
ويتابع: اعمالي الحالية في اوروبا تثير المشاهد والمتلقي في صالات العرض الفنية والمعارض السنوية، وقد وظفتُ تواجدي الدائم هناك لنقل معاناة شعوبنا بوصفنا قضية انسانية عالمية لابد من طرحها امام الاخر .
من هم ابرز النحاتين الذين تأثرت بهم في العراق والعالم؟
في دراستي الأكاديمية وفي بداياتي تأثرت بمجموعة من النحاتين العالميين كالنحات مايكل انجلو، ورودان، وهنري مور، والنحت الروسي، اما في العراق فكانت تستهويني أعمال كلٌ من محمد غني حكمت، وإسماعيل فتاح الترك، وسهيل الهنداوي، وزميلي النحات عبد الحميد الزبيدي، ولكن تبقى أعمال رودان ومايكل انجلو الأقرب والأكثر تأثيرا».
هل لك ان تحدثنا عن محطات مسيرتك الإبداعية وعن عملك الاخير حجي راضي؟
-ربما الإجابة عن هذا السؤال تكون غير منصفة بحق من يتابع اعمالي، لأنهم هم من يستطيع تحديد محطات الإبداع في اي عمل، لكنني كفنان ومتخصص في فن النحت احاول ان اتخذ من تفاصيل المجتمع العراقي مادة تؤرخ لمرحلة ما، سواء كانت قضية معاناة ام شخصيات أثرت في ذاكرة المجتمع العراقي وتركت بصمة، تتداولها الأجيال عبر التاريخ، وأجد مسألة الإبداع وتقديم الأفضل، مسار على سلم، وليس على أرض منبسطة، مادام الفنان ينسجم مع اعماله الفنية بإحساس عال وبتقنية متطورة.
ويضيف:بالنسبة للشق الثاني من سؤالك فمنذ مدة بدأت بتنفيذ اعمال نحتية لرموز عراقية وضعت بصمة مهمة بتاريخ العراق المعاصر، وهو اقل تكريم يمكن ان اقدمه، وكان من بين هذه الرموز الراحل سليم البصري، وقد لاقت هذه الاعمال اهتماما رائعا من الجمهور العراقي،بعدها بمدة اتصل بي مجموعة من محبي الراحل سليم البصري في الخارج والداخل، على ان انفذ له تمثالا بقياس مرة ونصف الحجم الطبيعي وبالزي البغدادي، وان يكون ضمن شخصية غفوري بمسلسل الذئب وعيون المدينة.
ويتابع: بدأت بعمل الماكيت في مشغلي ببلجيكا، وبعد الموافقة عليه سافرت الى الصين لتنفيذه بالحجم المطلوب وصبه من البرونز، وعند الانتهاء منه شحن الى بغداد ليكون في ساحة القشلة في المتنبي، وعند افتتاح العمل لم اكن في بغداد، وكنت اتابع من بلجيكا القنوات التلفزيونية وبعض الفيديوات والرسائل من خلال اصدقائي على وسائل التواصل الاجتماعي. كنت فخورا جدا بمدى اعجاب الجمهور بتفاصيل العمل والشخصية وكنت اقرأ بفرح ما يكتب على صفحتي في الفيس بوك والانستغرام. لقد كان العمل ناجحا بآراء اصدقائي الفنانين واساتذتي أيضا. اتمنى ان تحتضن ساحات بغداد كل مبدعيها ورموزها.
هل لديك اطلاع على تدريس فن النحت في معاهدنا وكلياتنا الفنية؟ وما هو انطباعك عن الامر؟
-نعم لدي تجربة مهمة حين كنت طالبا في معهد الفنون الجميلة، ثم بعد حين مدرسا لفرع النحت في المعهد نفسه، والفرق بين المرحلتين يتلخص في ان السنوات السابقة كانت المدارس الفنية في العراق تضاهي المدارس العالمية وأكثر بسبب عدد الموهوبين في بلدنا والملاك التدريسي الذي كان يعمل بمناهج عالمية من خلال الايفادات المستمرة لهم خارج العراق، والذين هم بالأصل فنانون كبار وكان الطالب آنذاك موهوبا جدا، ويتم قبوله من خلال التنافس بالاختبار والمقابلة، أضف الى ذلك طموحه الكبير وشغفه بالفن لتحقيق شيء في ذاته. التنافس كان كبيرا بين الطلبة، حتى داخل ورش العمل، اما المرحلة الحالية فأن بعض المدرسين (واقول بعضاً) يفتقدون الكفاءة الفنية المطلوبة وليس لديهم تماس واطلاع على تطور الحركة الفنية في الخارج، فهم يتركون لطلابهم حرية العمل من دون توجيههم الى الاسس الثابتة والرصينة التي تؤسس لفنان متمكن، وهذا ما يدفع بالطالب الى اعمال التجريد بعيدا عن المدرسة الواقعية.