العسكرة الالزامية

من كثرة القهر والضيم نشرت قبل اسابيع عموداً تحت عنوان “لدي حلم” وهي عبارة مارتن لوثر كينغ (زعيم حركة الحقوق المدنية للزنوج الاميركان) وكان حلمي متواضع جداً مقارنة بما دغدغ مخيلة ذلك الحالم الكبير، اذ حصرته بامكانية حجب وظيفة التشريع عن البرلمان العراقي الحالي، لما يمكن ان يشكله ذلك “الحق” من خطر على حاضر ومستقبل شعوب هذا الوطن المنكوب وبنحو خاص شريحة الشباب منه. ولم يمر وقت طويل على ذلك حتى تأكدت هواجسي ومخاوفي، والمستندة الى معرفة ومتابعة لنوع هموم واهتمامات هذه الطبقة السياسية والتي لعبت بتطلعات العراقيين المشروعة “شاطي باطي”.
حيث نشرت وكالات الأنباء يوم الاثنين (7/1/2019) أول الغيث والذي جاء على لسان رئيس لجنة الامن والدفاع النيابية: “…صار من الضروري ان يمرر قانون الخدمة الالزامية، لما له من أهمية كبيرة للشباب العراقي في تطوير مهاراتهم وفتح آفاق كبيرة لهم” هذه “البشرى” زفها للأجيال الحالية والمقبلة المستشار الاعلامي لوزارة الدفاع قائلاً: “ان هذا القانون يأخذ بالاعتبار المؤهلات الدراسية والظروف الشخصية… مع الاخذ بنظر الاعتبار ان كان معيلاً لعائلته..”.
هكذا ينظر القوم لطبيعة مشاكلنا، وهكذا يضعون خارطة طريق لاولياتهم ومشاريع قوانينهم التي ستشرع الأبواب ليتحول انسداد الآفاق الحالي والعجز عن حل ومواجهة أهم تحديات ما يطلقون عليه بـ (مرحلة العدالة الانتقالية) بمثل هذه العطابات التي عفا عليها الزمن، متوهمين ان كبسولاتهم هذه ستعيد للعراقيين لحمتهم الوطنية وتشرع الابواب بعد فراق طويل؛ لاستقبال “الكمره والربيع”. هكذا تتم حوسمة أمر أكثر القضايا والملفات الشائكة، والتي تفاقمت بشكل لا مثيل له بفضل محدودية وضيق افق وشراهة هذه الطبقة السياسية وممثليها في شتى الميادين المدنية منها والعسكرية.
طبعاً الاصرار على اعادة طرح مثل هذه التشريعات، والتي تمثل في جوهرها هروباً فاضحاً عن مواجهة التحديات الفعلية ووعي علل كل هذه الهزائم التي رافقتنا زمن النظام المباد ومع ورثته الحاليين؛ لم يأتي من فراغ، وهو مؤشر لا يتناطح عليه كبشان عما ستفضي اليه الاحوال، برفقة كتل وجماعات يقبع في قعر أولوياتهم هموم امتلاك دولة وقانون ومؤسسات حديثة، تنهض بهذا البلد المنكوب من وسط الانقاض والحرائق والحروب، بزعامات وملاكات تنبري لمواجهة تحديات عصرها لا هموم الرسائل الخالدة وهلوسات القوافل الغابرة. مع مثل هؤلاء المشرعين والكتل والجماعات التي تتحكم بهم، لن ينضح الا هذا النوع من التشريعات، التي تبعث الروح لقيم العسكرة والثكنات والتي يصر ممثليها الحاليين على الاعتصام بعروتها رغم أنف كل هذا الخراب المادي والبشري والقيمي الذي الحقته بمكاريد هذا الوطن القديم.
هذه المرة اريد التكلم معكم بشكل آخر، يدفعني لذلك ما تتميزون به عن سياسيو العالم، طبعاً اطلاق صفة السياسي عليكم فيها الكثير من الظلم والاجحاف بحق هذه المفردة، فانتو وين ورواد النشاط الوطني والسياسي وين، لكن وبما ان الصدفة التاريخية قد فعلت فعلها على تضاريسنا المبتلاة باتعس التجارب في تاريخها الحديث؛ فلا مناص من مكاشفتكم بحقيقة ما تقومون به على أرض الواقع. ان التشريع الوحيد والاساس الذي بمقدوره مواجهة كل هذا التردي والفساد والتشرذم ويمنح الأجيال الحالية والمقبلة أملاً بالمستقبل؛ هو قانون احزاب حديث يؤسس لاحزاب تضم كل العراقيين من دون تمييز على اساس “الهويات القاتلة” وهذا ما لا تطيقونه…!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة