قد يتفق معي الكثير منكم..في أننا صرنا نفتقد الكثيرا من الأحاسيس والمشاعر الجميلة التي كانت تراودنا أثناء ممارستنا للطقوس الصباحية التي توارثناها عن ابائنا واجدادنا ، هل لانها كانت مفعمة بالألفة والمحبة والتلقائية والبساطة ، وهذا ماكان يضيف على صباحاتنا .. روحاً وأملاً وتفاؤلاً باليوم الجديد.. أم أن هناك أسباب اخرى تؤدي لذلك !
التفسيرالمنطقي لكل مايحدث لنا في ذلك نجده عند علماء الاجتماع والطب النفسي .. فهم خير من يفسر مايحدث لنا من ظواهر تاثيرات صورالماضي التي تختزنها الذاكرة على شخصية الانسان وبناءه الفكري وسلوكه المستقبلي ، هناك من يعزوه الى أختلاف الفترات الزمنية وضريبة العمروالحنين الى مرحلة الطفولة و”الصبى والشباب “..كما يقول الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب . هناك من يجد أن طبيعة وثقافة المجتمعات العربية وأيمانها بالمقولات الشهيرة ” منو ابو باجر ” أو الجملة الشهيرة ” البارحة أحسن من اليوم واليوم أحسن من باجر ” هي التي جعلتنا في حنيين دائم الى
الماضي التليد.. لان الماضي حسب هذه النظرية بانه أفضل من الحاضر !
هناك أشياء تظل عالقة في ذاكرتنا وذكرياتنا مهما امتدت بنا الاعمار كما يحدث مع قضية “الحب الاولي ” في زمن المراهقة …بل أن بعض هذه الذكريات والاحداث تتقد شيئا فشيئا مهما كان موضوعها أو أهميتها .. بحيث أنها تثير الشجون وتهيج المواجع وتفتح الابواب مشرعة .. لعالم من الخيال والاحلام والحكايات الجميلة والحزينة في آن واحد !
باتت هذه الاسئلة تتردد في ذهني وخاطري …. في مناسبات كثيرة ، خصوصا عندما أفتح أجفاني على صباح جديد .. لأجده لا يشبه الصباحات الاخرى .. وهنا يتكرر السؤال ..؟
هل حقيقة بدءنا نفقد ونفتقد الصباحات الجميلة وأشراقات الفجر المعلنة ؟
يسرح بي الخيال أحيانا .. الى عقود مضت .. الى.. أستذكار المشهد الصباحي لمحلتنا في جانب الكرخ .. حيث كانت تتعالى أصوات القراء العرب وهي تصدح عبر أثير المذياع “الراديو ” للمحال والمقاهي والمطاعم ….امثال .. عبد الباسط عبد الصمد أو المنشاوي او الحصري والشعشاعي أومصطفى محمود أوالبهتيني ، هذه الاصوات كانت تمتزج باصوات القراء المحليين الراحلين .. أمثال الحافظ مهدي أو الحافظ خليل أسماعيل او الحافظ صلاح الدين أو سعيد القلقالي أو محمود عبد الوهاب وغيرهم .. اصواتهم كانت تضيف لمسات روحانية جميلة على الاجواء العامة للحي أو الزقاق. صباح كل يوم
تمتع نظرك بمشاهدة أطباق و”صواني ” القيمروالكاهي وتشريب الباقلاء بالدهن أوشوربة العدس أو الباجة أوالشاي بالفحم ومشاهد الخبز والصمون الحارالذي يخرج تواً من الفرن أو “التنور ” أو أنتشار “كاسات” اللبن الرائب ” ابو الكشوة ” أو مشاهد عربة أبو الكبة .. المتنقل .. أوالمطاعم التي تقدم ..البيض المقلي .. أو”السلق ” وحركة الشارع التي تتحول تدريجا الى زيادة في حركة المارة والسيارات .. نكهة الاحياء الشعبية والمطاعم والمقاهي .. و”بسطيات ” الاكلات والمشويات .. وعلى راسها التكة و المعلاك .. كنا نسمع من يطلب باعلى صوته “فد شيشين معلاك ..وطماطة شوي “. كانت
كراجات العلاوي الحلة أو النهضة تعج بحملة الحقائب ،وباصات النقل العام “المصلحة سواء”الحمراء ” ذو الطابق الواحد او الطابقين .. كانت تلتزم بتوقيتات الوصول الى محطاتها .. بدقة متناهية ، وهناك عدد من النسوة يفترشن الارض لبيع ” القيمر المحلي ” .. طقوس وعادات … تقاليد دئبنا وتعودنا عليها .. أصوات تتكرر في ذاكرتنا .. هناك أصوات أصحاب المحال وهم يرددون “يافتاح ياحليم يارزاق ياكريم… أو “صبحنا والصبح لله ” !
أغاني الصباح كانت تشنف اسمعانا .. باغنيات حفظناها عن ظهر قلب ..منها “صباح الخير يا لولة “.. للمطربة ملك محمد او” يصباح الخير” لام كلثوم او.. “ياحلو صبح.. نهارنا فل ” للمطرب محمد قنديل !
لاأدري لماذا قفزت الى ذاكرتي الخالة “عمشة ” وأنا أكتب عن صباحاتنا الماضية .. هل لانها كانت ضمن دائرة التكوين او المشهد الذي كنا نراه كل يوم ونتعايش معه . قد يكون هناك من يعاتبني ويقول لي :” عمشة منو ..عبالنا راح تحجي على فيروز ..لو زهور حسين لو وحيدة خليل لو صوفيا لورين لو بريجيت باردو !!
“عمشة” سيدة طاعنة في السن ، كانت تبكر صباح كل يوم لتبيع الباقلاء “على درب اليمرون” ، تواظب على الجلوس في أحد أركان “الدربونة “.. أضطرت هذه السيدة أن تُعيل أسرتها بعد رحيل زوجها ، ماان كانت تضع عدتها وادواتها ..على الارض ..من طباخ نفطي قديم وقدر كبير.. وصحن .. حتى يقبل الزبائن ويتقاطرون عليها من رجال ونسوة واطفال وهم يحملون “الاطباق” الفرفورية او المصنوعة من “الفافون”فضلاً عدد من أرغفة الخبز ” اليابسة ” لتقوم الخالة “عمشة ” بدسها في التشريب الساخن للباقلاء واخراجها من القدر بعد أن يتشبع بالماء ومن ثم وضعه من جديد في ” الماعون” مع بضع من
الباقلاء ورشه “بالبطنج ” .. كل ذلك مقابل أجور قليلة !مشهد كان يتكرر يوميا .. بحيث كنت المس السعادة مرسومة على وجوه كل من يحظى بطبق باقلاء من الخالة “عمشة ” قبل تفاذه !
لااعرف ..لماذا قفزت “عمشة “الى واجهة الذاكرة ..؟ هل لانها كانت تمثل لنا صورة المرأة العراقية ومعاناتها وقسوة الظروف التي أحاطت بها ! ربما هناك من يقول أن الخالة “عمشة ” كانت محظوظة لانها لم تفقد ابنا في “جريمة سبايكر” او الحروب الطائشة التي اكلت الاخضر واليابس أو حتى في “مسطر” العمال الذي كان يمتزج فيه الفطور بدماء العمال الابرياء !
• ضوء
هناك من يعشق البقاء في “الكهوف ” .. وهناك من يعشق “الصباحات الجميلة” !
عاصم جهاد