مات مؤخرا الرئيس الأميركي الأسبق المثير للجدل جورج بوش الأب، وقد تلقى الرأي العام العالمي نبأ الوفاة، بين «مترحم» و»لاعن» .. وكل طرف من الطرفين له أسبابه ومبرراته «ترحما» او «لعنا»، ولا شك ان مسارات تلك المواقف جاءت وفقا لسياسة بوش تجاه المجتمع الدولي ..
وقد بدت تلك المواقف المختلفة واضحة بجلاء في العراق، فبعض العراقيين لعنوا الرجل لحد قطع النفس، وآخرون دعوا له «بالرحمة والغفران والخلود في الجنان» !!..وان اردنا ان نحلل اختلاف مواقف العراقيين، وانقسامهم حول بوش الاب، فإننا لا يمكننا غض الطرف عن الظروف التي احدقت بالعراق قبل عام ٢٠٠٣ ، وبعده ، فقد زرعت تلك الظروف اختلافا كبيرا في مواقف وآراء العراقيين ازاء شتى القضايا ، لاسيما قضايا السياسة ، وقد وصل الاختلاف في بعض المواقف الى مستوى الخلاف والقطيعة احيانا بين هذا وذاك ..
ولعل وجود مثل هذا الخلاف والاختلاف الذي يرتفع تارةً وينخفض تارة اخرى ، ناتج من التناقضات الحادة والمشكلات العويصة التي مر بها البلد .. فالذي واجهه العراقيون في زمن النظام السابق ، من تقييد للحريات وظلم وتعسف وكبت للتطلعات ، جعلهم يتوقون ويرغبون بتغيير واقعهم ، بصرف النظر عن طبيعة التغيير ، ومن ذا الذي يقوم بهذا التغيير ، ولا ما هي النتائج التي سيتمخض عنها التغيير
ولأن الوضع الداخلي في البلد كان ضعيفا جدا ، وليس بإمكان القوى الداخلية احداث عملية التغيير المنشود والتخلص من النظام القائم ، وكنتيجة حتمية لتداعيات غزو العراق للكويت عام ١٩٩٠ ، وما تلاه من حصار شديد القسوة ، فقد كانت الامور تسير باتجاه التصعيد بنحو واضح ، لاسيما ان النظام العراقي كان يعمد الى اسلوب التحدي والاستفزاز للمجتمع الدولي وأميركا على وجه الخصوص، الامر الذي سهل على الادارة الاميركية برئاسة جورج بوش الاب ، حشد المواقف الدولية الداعمة لفكرة اسقاط النظام « لأنه بات يمثل تهديدا وشيكا للمنطقة والعالم ، ومع وجود استعداد الداخل العراقي لمثل هذا التوجه الذي يجد فيه خلاصه ، فكان الترحيب واضحا وبقوة ، ومن هنا ، فقد اسهمت كل تلك للظروف في اسقاط النظام ، لينعم العراقيون لأول مرة بالحرية والديمقراطية ، معتقدين ان الامور ستمضي الى خير ، وأنهم سيصبحون بين عشية وأخرى مثل السويسريين !! ..وان كل هذا النعيم ما كان له ان يعم لولا العم بوش !! فهو الذي قاد العالم في شن الحرب على العراق وإسقاط نظام صدام لتعم الحرية والديمقراطية ! .. ولكن من جانب اخر كانت ثمة قوى متضررة من التغيير ، بدأت تحركها من اجل التأثير على الوضع الجديد بوسائل متعددة (مسلحة ، اعلامية ، سياسية) ..
ومع مرور السنوات ونتيجة للتردي الذي شهده العراق في جميع المجالات بعد عام ٢٠٠٣ ، لأسباب كثيرة ، من بينها سوء الادارة السياسية ، تكالب الارهاب العالمي ، الفوضى السياسية ، تدخلات القوى الخارجية ، استمرار وجود القوات المحتلة في البلاد ، تداخل مفهوم الارهاب والمقاومة في بعض المواقف والزوايا ، .. كل ذلك جعل الكثير من العراقيين يتحدثون بلغة اخرى ،وينظرون الى الواقع الجديد ، نظرة سلبية متشائمة ..
فبعضهم يحمّل صداما ونظامه كل هذا التردي نتيجة سياساته وحروبه العبثية وانصرافه الى عسكرة المجتمع ، وإهمال التنمية .. فيما يحمل اخرون «جورج بوش» الاب وإدارته ، ما آل اليه الحال في البلاد ، فهو في النهاية لا يقل تهورا عن غريمه صدام ، مع وجود طبقة مستفيدة من التغيير .. كل تلك المعطيات جعلت من مواقف العراقيين متباينة ازاء موت الاب جورج بوش ..ولكن واقعا ، وبصرف النظر عن اسباب التغيير ، ومَن قام به ، فان الثابت ان النسبة الاكبر من العراقيين كانوا مرحبين بما حدث ، ولكن المشكلة تكمن في مآلات الاحداث ، فما شهدته البلاد على مدى عقد ونصف العقد من الزمان لم يكن منطقيا ، اضطراب وفوضى وفساد وإرهاب ، مع وجود حرب اعلامية هائلة وتدخلات خارجية مرعبة ، قطعا ان ظروفا مثل هذه ستؤثر سلبا على مدارك وتفكير المجتمع وتحوله إلى مجتمع سلبي متشائم لا يثق بشئ ، لذلك فإننا نحتاج إلى عملية تصحيح حقيقية لتلك الانحرافات التي شابت مراحل تأسيس العملية السياسية في العراق ، ولسنا معنيين ببوش ، أساء أم احسن ، في الجنة كان ، ام في الدرك الاسفل من النار !!
عبدالزهرة محمد الهنداوي
لهذه الأسباب اختلفنا !
التعليقات مغلقة